الأزمة المالية العالمية ما زالت تتفاعل، ولم تصل إل منتهاها بعد.. وأكبر اللوم يضعه المراقبون على الليبرالية الجديدة، التي تواجه العديد من الاحتمالات، إما الاندثار أو الصمود أو ما بينهما من درجات التراجع، التي أصبحنا نراها سياسياً في هزيمة الجمهوريين الأمريكيين في الانتخابات أو اقتصادياً في سياسات التدخل الحكومي بالاقتصاد..
لكي نحاول معرفة إلى أين ستذهب الليبرالية الجديدة، لا بد أن نعرف من أين جاءت. ولا بد هنا من تناول جذورها التاريخية، ولكن قبل ذلك من المهم التفريق بين الليبرالية الحديثة (new liberalism) والليبرالية الجديدة (Neoliberalism)، حيث يظهر لبس هائل لدى كثير من الكُتّاب نتيجة عدم التفريق بينهما لتشابه المسميين نطقاً وكتابةً. الأولى تنظوي تحت اليسار الليبرالي، وعلى عكسها فإن الثانية نشأت في أقصى اليمين الليبرالي كحركة اقتصادية ظهرت في سبعينات القرن الماضي..
من أين جاءت الليبرالية الجديدة ومتى ظهرت؟ يمكن القول إنها لم تختف أبداً منذ ظهور الليبرالية التقليدية في القرن 18 . والليبرالية التقليدية بدأت كمذهب يشدّد على الحرية الفردية وتقليل تدخل الدولة إلى أدنى حد، متضمنة مجموعة مبادئ هي العقلانية وحقوق الملكية الفردية وحقوق الإنسان الطبيعية والسوق الحر، كما في كتابات أهم مفكريها مثل آدم سمث وديفيد ريكاريو.. مع العلم أنها ظهرت فلسفياً مع كتابات جون لوك في القرن 17 .
وكانت الفكرة الليبرالية التقليدية تتلخص في أن اقتصاد السوق الحر والتنافس الطبيعي ينظّم نفسه تلقائياً ليصب بالنهاية في منافع المجتمع ككل بعيداً عن فساد البيروقراطية واستبداد الدولة. ولكن بعد التطبيق العملي لهذه الفكرة وظهور أزمات مثل البطالة والكساد والظلم الاجتماعي، تطورت الليبرالية في القرن 19 ، وظهرت ليبرالية حديثة (يسارية) تطرح أفكاراً اشتراكية وتميل لتدخل الدولة.. والفكرة هنا أنه إذا كان هدف اللبرالية الأسمى هو حقوق الفرد خاصة حريته وكرامته ورفاهيته، فإن هذه الحقوق لا يمكن تحقيقها بدون رعاية اجتماعية من الدولة تزيل عن الأفراد المظالم التي نشأت من السوق الحر (الرأسمالية). ومن هنا نشأ ما يُسمى الاقتصاد المختلط، عبر تدخل الدولة في السياسة الاقتصادية ووضع معايير اجتماعية وحقوقية للرفاه الاجتماعي (الضمان الاجتماعي والصحي والتعليمي..إلخ).. فلسفة هذه الليبرالية الحديثة نجدها في كتابات مؤسسيها الأوائل مثل جون ستوارت مل، توماس هل جرين، ليونارد هوبز..منذ ذلك الحين بدأت الليبرالية التقليدية تتوارى شيئاً فشيئاً في الدول الليبرالية الديموقراطية، بينما نمت تدريجياً الاتجاهات اليسارية لليبرالية (أي تزايد السياسات الاشتراكية في الاقتصاد)، ونالت تأييداً شعبياً متنامياً وعلى وجه الخصوص في أوربا (إيطاليا، فرنسا، أسبانيا، الدول الاسكندنافية، بريطانيا..)، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. ومع استمرار هذه الحالة واجهت اليسار الليبرالي مشكلة الموازنة بين الديمقراطية الاشتراكية والتخطيط المركزي من جهة وبين تحرير سلطة رأس المال وحرية السوق من جهة أخرى، أي التناقض بين التوجه التشاركي وبين متطلبات تراكم رأس المال. ومع نهاية الستينات ظهرت أزمة تراكم رأس مالي حقيقي، فارتفعت معدلات التضخم والبطالة، ودخل الاقتصاد في ركود في أغلب فترة السبعينات (ديفيد هارفي).
في تلك الأثناء وقبلها، كانت القيادات السياسية والمالية الرأسمالية اليمينية، ومعها منظرون في مراكز الأبحاث وفي الإعلام ينتقدون بشدة هذه السياسات اليسارية التي سببت الركود الاقتصادي، وأخذوا بالدعوة إلى ضرورة تحرير الاقتصاد من أجل تنشيط تراكم رأس المال.. والمبدأ الأخلاقي الأول لليبرالية الجديدة (Neoliberalism) هو حرية الإنسان وكرامته، وهذه لا يمكن تحقيقها دون حرية الاقتصاد، أي حرية الملكية الفردية وحرية السوق دون تدخُّل الدولة أو وضع حد أدنى لتدخلها، بحيث يكون فقط لحماية حقوق الملكية الفردية واقتصاد السوق وتوفير السبل المؤسسية لذلك، كمؤسسات الأمن والدفاع والقضاء والتشريع..
لماذا التشديد على عدم تدخل الدولة في السوق؟ لأنها في نظرهم غير قادرة على الخوض في حركة السوق، وأنها لا بد أن تكون متأثرة بالقوى السياسية (الأحزاب والنقابات) أو بالقوى الاقتصادية (أصحاب النفوذ المالي)، مما يجعل قراراتها منحازة وخاطئة. كما أن القيود البيروقراطية تحد من قدرة الدولة على جمع المعلومات المتجددة في الأسواق ...إلخ.. وهذا بطبيعة الحال يرجعنا لنفس المبادئ الاقتصادية الليبرالية التقليدية لآدم سمث التي أشرنا إليها..ومع أواخر السبعينات وبداية الثمانينات بدأنا نشهد صعوداً سياسياً سريعاً لليبرالية الجديدة على المسرح العالمي.. ففي عام 1978 قام الزعيم الصيني المخضرم دينغ جياو بينغ بتحرير اقتصاد الصين الشيوعية من اقتصاد مقيد بطيء إلى اقتصاد اشتراكية السوق ليصبح ديناميكياً مفتوحاً للرأسمالية العالمية.. وفي عام 1979 انتُخبت مارغريت تاتشر رئيسة لوزراء بريطانيا وهي من أكبر الداعمين لليبرالية الجديدة.. وبعدها بأشهر انتخب رونالد ريجان رئيساً للولايات المتحدة عام 1980 وهو أشد إيماناً من تاتشر بالليبرالية الجديدة.. وكان الاتحاد السوفييتي يعاني من جمود بيروقراطي مركزي واقتصاد متخلف منغلق، ومن تبدل قيادات سياسية عاجزة، حيث توفي ليونيد بريجينف عام 1982 ليخلفه زعيم جديد (تشيرنينكو) ما لبث أن توفي، ليخلفه آخر أشد عجزاً (أندروبوف) الذي بدوره سرعان ما قضى، ليأتي جورباتشوف الذي مهد لسقوط الاتحاد السوفييتي، وتصبح الساحة العالمية مكشوفة تماماً لليبرالية الجديدة..ورموز الليبرالية الجديدة يمثّلون في واقع الأمر أقلية يمينية في فكر الاقتصاد الليبرالي، ولكن بما أن أغلب فترة السبعينات كانت تعاني من ركود اقتصادي، فيبدو أنه كانت هناك رغبة في التغيير واستعداد لقبوله.. ونال غلاة المنافحين عن تحرير الاقتصاد (دعاة الليبرالية الجديدة) مراكز أساسية في مطابخ صنع القرار سواء تلك التي لها تأثير مباشر كوزارات المالية والاقتصاد وإدارة البنوك، أو ذات التأثير غير المباشر كالإعلام والتعليم ومراكز الأبحاث..وكان من الطبيعي في تلك الأثناء - في الثمانينات - أن تزدهر مفاهيم وإيديولوجية اليمين الليبرالي، وأصبحت من المسلمات الذهنية في طرق إنعاش الاقتصاد مثل الخصخصة، وتحرير الاقتصاد من التأميم، وإبعاد الدولة عن العديد من مجالات الرعاية الاجتماعية، وفك القيود والضوابط التي فرضتها نقابات العمال وتوجهاتهم الاشتراكية.. بل حتى الدول ذات التوجه الاشتراكي الديمقراطي أو ما يُسمى دولة الرعاية مثل الدول الاسكندنافية بدأت تخفف تدريجياً من سياسة تدخل الدولة لصالح حرية السوق..
وقد توسع مدى هذه الحركة الاقتصادية (الليبرالية الجديدة) في التسعينات، وامتدت قيمها لتشمل مفاهيم وطرق تفكير جديدة، ودخلت في ثورات تكنولوجية وعلمية (ثورة المعلومات والاتصالات) لتختصر مسافات المكان وحدود الزمان، وليظهر ما أطلق عليه مصطلح العولمة.. وبالتالي تعدى الأمر الجانب الاقتصادي إلى التأثير على كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية..
وأخيراً، إذا كان من غير الصعب أن نعرف من أين جاءت الليبرالية الجديدة وكيف تسيّدت على مسرح الأحداث العالمي، فإن الصعوبة في معرفة إلى أين ستتجه؟ ربما نتناول ذلك في مقالة قادمة..