Al Jazirah NewsPaper Monday  22/12/2008 G Issue 13234
الأثنين 24 ذو الحجة 1429   العدد  13234
الرئة الثالثة
أيام في القاهرة: انطباعات بريئة!
عبد الرحمن بن محمد السدحان

قُدِّر لي أن أمضي جزءاً من إجازة عيد الأضحى المبارك هذا العام في عاصمة (النهر الخالد).. القاهرة، وكنتُ سعيداً بتلك الأيام المعدودات التي لم يعكّر صفوها أنين العربات ولا صَخبُ الحناجر ولا شغبُ الزحام الذي لا يرحم ولا تُعرفُ له ذروةٌ محدَّدةُ الزمن في ليل أو نهار!

***

* كنتُ سعيداً رغم كل تلك الفتن لسبب يسير هو أنني (ابتدعت) لنفسي منذ حين طويل (مقولةً فلسفية) خاصة تزعم أن مَنْ أراد أن يتعلم فن الصبر على الشدائد بإتقان، فليَهبْط أرضَ مصر، والقاهرة تحديداً، أمّا من لا صَبْرَ له على الصبر، فليقِ نفسَه ومَنْ معه قلقَ الحواس، وأذى اللسان، وضيمَ البدن!

***

* لكن هناك سبباً آخر يعين على الصبر، ويزيُّنه لطالبه، هو أن للقاهرة عذوبةً خاصة لا يدركها إلا من عاش بها و(تعايش) مع مَنْ وما فيها من إنسان وجماد! فإنسانُها لا يبخل عليك بطيبته وعذوبة لسانه، حتى وإنْ كان في بعض ما يطلقه نفاقٌ! وهو يأسرك بابتسامته حتى وإن تَستَّرتْ على زفيرٍ من بؤس.

***

* والقاهرة تمنحك جُلَّ ما تشتهيه نفسُك من مُتَع الحسِّ الحلال بشرط توفُّر (القدرة) على توفير (المقابل) لها، وهناك تستطيع أن تكون (مهَرَاجا) في عيشك أول النهار وأوسطه وآخره، غير عابئ بما تلتقطه عينَاك من ملامح العَوز، عن يمينك وعن شمالك! وقد تتحوّلُ معادلةُ (الصبر) إلى نوع من الرضا والقبول يستقران في وجدانك، ويؤهلانك (لإدمان) الحب للمدينة بامتياز!

***

* تلك كانت لمحةً سريعة جداً ومقتضبةً جداً لنسيج (الحياة القاهرية) في عين مشاهد برِيءٍ لها، وهي محصّلةٌ تراكمية أفْرزتْها زياراتٌ عديدة لتلك المدينة الفاتنة عبر أكثر من ربع قرن، والقاهرةُ بحقّ، كَسِواها من مدن العالم، ليس في الانجذاب إليها أو الابتعاد عنها حلٌّ وَسَط، فإما أن تحبَّها حُبّاً جما يُعشِي بصرَك وبصيرتَك عن رؤية أيّ شيء آخر تجد فيه خَلَلاً أو عِوَجاً، وإمّا أنْ تُعْرِضَ عنها إعراضاً، ولذا لا أحبذ (المقارنة) بين المدن، مثل القاهرة وبيروت ولندن وباريس ونيويورك ولوس أنجلوس وغير ذلك من مدن العالم، فلكل منها ما يشدُّك إليها أو يشذُّ بك عنها، تبعاً لمنظومة خاصة (تكيف) موقفك منها، إقبالاً عليها أو نفوراً منها!

***

* أختم هذا الحديث بوقفة قصرة جداً أتحدث فيها عن القاهرة بحميمية المحب فأقول:

* بَدتْ لي القاهرة، بعد زيارتي الأخيرة لها: كامرأة مُسنّةٍ عبثت بها (عنوسَةُ) السنين، و(شقاوةُ) الأولاد وشَقَاؤُهم، وفتنةُ العوز، وانطفأت في وجنتيْها مشاعلُ الفِتْنة، وخَبَا النور في عينيها، واختلطتْ مَلامحُ العمارة القديمة فيها -التي أذابت (عوامل التعرية) مساحيق الجمال فيها حتى غدت كالأطلال- مع ناطحات السحب المتوسطة الطول والعرض، وشَعرتُ بحسْرةٍ خاصةٍ أَنْ آلتْ قاهرةُ المعزِّ إلى ما آلت إليه، ترَهُّلاً في السكان، وتراكما في العربات، وتراجعاً في صيانة بنيتها الحضارية التي أخالها تشكو الجفاءَ ليلاً ونهاراً، وهي المدينةُ التي كانت في الخمسينات من القرن الماضي ترسمُ الكُحلَ في عينيها كلَّ عشيٍ، وتُقلَّمُ أظافرَها كلَّ مساء، وتغسل أطرافها بالصابون فجراً قبل أن تخلد إلى النوم!

***

* رغم هذا كله، أظلُّ لأمر لا أدركُ له سراً، أحبُّ القاهرة، وأتوقُ للعودة إليها، رغم معَانَاتها مع الأحياء والحياة، وأحسبُ أن وجودَ النيل الخالد الرابض بين ذراعيها يشْفَعُ لهذا الحب ويشجع عليه.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5141 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد