Al Jazirah NewsPaper Sunday  21/12/2008 G Issue 13233
الأحد 23 ذو الحجة 1429   العدد  13233
فلنختلف دون أن نفترق!!

وطن الإنسان ومنذ الأزل منزله, حيث تجد هذا الإنسان يحاول جاهداً أن يبني منزله على أسس متينة وقواعد سليمة وأرض صلبة ليحمي منزله من الكوارث, مصمماً في الوقت نفسه هذا المنزل على أفضل طراز يناسب ذوقه دون أن يتعارض مع الذوق العام حتى ينأى بنفسه عن الشذوذ الاجتماعي.

يتكبد الإنسان من أجل هذا البناء المشقة باذلاً جهده وماله, ولكن الحياة لا تخلو من الآفات التي على تعدد أشكالها تنتشر كالسرطان محاولةً هدم البناء الشامخ الذي تعب فيه صاحبه لا يلوي على شيء سوى تجميل وجه الحياة وإضافة الإشراقة عليه. وعلى سبيل المثال حدثت قصة في بلاد ما بين النهرين, إذ كانت مملكة المناذرة اللخميين تبسط نفوذها على تلك المنطقة, وكانت في رغد من الخيرات وغدق من العيش, فأخذ أحد ملوكها في التفكير في بناء قصر تهذي به الركبان. وبعد بحث طويل عن الأجدر بهذه المهمة لم يجد أجدر من سنمار. استدعى الملك سنمار وكلفه بهذا العمل الشاق، فشمر سنمار عن ساعديه وأبدع في بناء هذا القصر محاولاً بذلك وعلى أقل تقدير محاكاة ما أبدعته أنامل بنائي سومر عندما بنوا حدائق بابل المعلقة, منتهجاً بذلك الطريق السليم من عدم تتبع ثغرات من سبقوه وفضحها إلى ملء تلك الثغرات وإكمال مسيرة تجميل وجه الحياة.

بعد انتهاء سنمار من هذا البناء الجميل كافأه الملك بأن قتله. لم يخطئ سنمار المسكين في تفاصيل أرادها الملك أو تأخر في إنجاز هذا العمل زمنياً. وبغض النظر عن الرواية الرسمية لذلك الحدث القديم أرى أن سنمار لم يكن إلا ضحية لغول الأنانية وحب الظهور على أكتاف الآخرين والرغبة في الاستئثار بكل ما هو جميل دون بقية البشر.

كما أن شخصية ذلك الملك وزبانيته حاضرة عبر التاريخ سواء كانت ذات سلطة ونفوذ حيث السطوة والظلم أو ضعف وضمور حيث الحسد والحقد.

ومثل سنمار الباحث الذي يفني سنوات عمره من أجل تجميل وجه التاريخ الذي تآكل بفعل عوامل الزمن القاسية باذلاً كل ما بوسعه من أجل الوصول إلى أفضل صورة تقترب من الأصل، ثم يتفاجأ بما تفاجأ به صاحبنا سنمار, يتفاجأ بسرطان يلتهم هذا الوجه الجميل

حيث لا تفرق هذه الخلايا السرطانية بين الترميم والتصحيح وبين الهدم والتشويه فنالت غضب جميع البنائين والباحثين عن الوجه الجميل, الرافضين لفرض القوة والسيطرة وسياسة الإخضاع التي لا ينتهجها إلا الضعيف الذي يحاول هدم الأبنية الجميلة لكي ينال الإشادة بأنه الأجمل, فنجد أنه من السهل الهدم عندما يريده هؤلاء.

فالهدم يتخذ دائماً طريقة سهلة أقلها الرشق بالحجارة فلا يفرق فيها بين بناء جديد أو قديم, ولا يفرق بين الأساس السليم أو الأساس المتهرئ, ولا يفرق بين ما يحتاج إلى ترميم وما يحتاج إلى هدم فعلاً, متجاهلين أن الاختلاف في وجهات النظر بما لا يتعدى أبجديات الحياة موجود منذ بدء الخليقة, وهو ناموس من النواميس الكونية التي من حاربها هلك ومن جاراها سلك. فلا يجوز إلغاء الآخر مهما بلغ من الضعف في الرؤية وسوء التوجه، فما بالك بمن مشى على الطريق الصحيح؟ فأصعب شيء في الحياة أن تكتسب عداوة شخص خصوصاً عندما يكون بوسعك أن تكتسب صداقته.

إن النقد والتجريح سهل, ولكن العمل والإنتاج صعب, فلا يستحق المنتج منا إلا الاحترام بغض النظر عما وقع فيه من أخطاء يمكن تنبيهه عليها بالحسنى والنقد البناء, وليس بالتجريح والنقد الهدام حتى وإن لم يتجاوب معك.

إن من يناقش الآخرين وهو محاولاً إقناعهم بتوجهه, عندما تكون جميع الآراء قابلة للأخذ والرد فهو مجتهد, ومن يجابه الآخرين محاولاً إلغاءهم في حين أن رأيه مردود عليه فهو طاغية متكبر يظن أن الرياح تسير على ما تشتهي سفينته, وهذا المتكبر لا يلبث أن تغرق سفينته عند هبوب أول عاصفة, ومن يحاور الآخرين بالحسنى وهو على حق فهو مجاهد ولسان حاله يقول:

وكم من عائب قولاً صحيحاً

وآفته من الفهم السقيم

وعزاؤه في الحياة أنه لا يقذف إلا الشجرة المثمرة.

ألا يعلمون أن الباحث مثل الباني قديماً, كون الباني يجلب حجراً من هذا الشعب وحجراً من شعب آخر أو من جبل بعد مشاهدة غيره من الجبال حتى ينتقي من تلك الجبال الأحجار التي تتلاءم مع بقية الأحجار المجموعة لديه سابقاً, كما أنه يبحث عن الأشجار لكي يجلب منها الأخشاب المطلوبة لسقف حجرات مبناه كما ينتقي نوعية التربة التي يعمل منها خلطة البناء ثم يبدأ في البناء ويتم له تشييد المبنى على أسس وقواعد ثابتة حسب قدراته الفنية.

وتختلف أنواع التصاميم وتوزيع الحجرات بالإضافة إلى الطابع المعماري في تلك البلاد المراد إقامة المبنى عليها. وقبل هذا كله يختار الموقع متحاشياً جرف السيول لهذا الجهد لعله يبقى ماثلاً للعيان أطول فترة ممكنة.

وحتماً سيأتي من بعدهم معماريون كثر يشاهدون هذا البناء عندما يريدون إقامة مبنى لهم وسوف يكتشفون لمحات جيدة ومن الممكن أن يأخذوا منها شيئاً يضيفونه على مبناهم الجديد وإن كانوا منصفين يشيرون إلى أي لمحة استفادوا منها ويصبح في مبناه الجديد لمحات فنية لعله يأتي أحد من بعدهم ويشير إلى تلك اللمحات.. وهكذا دواليك.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد