أهداني (مشكوراً) الأستاذ عبد الله بن عبد المحسن الماضي نسخة من كتابه: (ذاكرة من الزمن) وهو كتاب استعاد فيه كثيراً من ذاكرة الطفولة ومن مسيرة الحاجة والعوز والكفاح من أجل أن يكون ذا مستقبل مشرق في بلد ما زالت الحياة فيه تسير على رتابة المجتمع يومها.
الذي يبدأ في قراءة هذا الكتاب سوف يضطر بأن يكمل القراءة، لأن الكتاب جاء بسرد سهل ممتنع ومغرٍ في آن واحد، وهو يشبه الرواية التي يكتبها كبار الروائيين من حيث حبك العبارة وجرّ القارئ لأن يكمل الفكرة التي هي نوع من الإغراء.
كنت أتمنى أن يقرأ الجيل الجديد مثل هذا الكتاب، على الأقل ليعرف بدايات المشاهير في هذا البلد العزيز الذي لا يحرم بعض المجتهدين من جهدهم، لكن زمن طفولة الأستاذ عبد الله كان زمناً يختلف عنه الآن، بل لقد قال في عبارة جميلة جداً كما يلي: وبالرغم مما فيها من شظف العيش وعناء الكد والكفاح، فقد كانت مليئة بالمروءات والنجدة والكرم والنخوة والوفاء والعفة والعطف ومكارم الأخلاق. أ.هـ ، لذلك كان جبلة جيل متنافس على الرجولة وكرم الأخلاق.
والكتاب يُعتبر مرجعاً تاريخياً مهماً لإنشاء هجرة الأرطاوية، وكذا صورة معبرة عن مجتمع الأرطاوية في بداياته، لأن الطفل (سابقاً) الأستاذ عبد الله الماضي عاش بها وتعلق بها وأحبها، وسمع وعرف من مجالس الكبار وأصحاب الحدث والحادث، لذا فإن الأستاذ عبد الله الماضي يُعتبر شاهد عصر على عصر لم يكن فيه تدوين، خصوصاً لدى البادية.
ومع أني أختلف معه في أسماء المؤسسين للأرطاوية وحصرهم، إلا أني أتفق معه في الكيفية والوقت الدقيق الذي ذكره عن إنشائها، وأورد له شواهد من رجال كانوا أكبر منه سناً وعاصروا بدايات الحياة هناك، مثل الشيخ عبد الله بن محمد الفاخري الذي ولد سنة 1325هـ، وغيره ممن كتب عنهم، وكان الماضي يسمع وهو في الخامسة والسادسة من عمره وما بعد من مجالس الرجال الذين يتكلمون على السجية لنقل الحدث كما كان بشكل عفوي، لم يعرف التحريف يومها.
والأستاذ عبد الله ممن درس في أول فصل دراسي وأول مدرسة نظامية في الأرطاوية، والغريب أنه أورد بياناً بأسماء المدرسين والطلاب الذين درسوا معه في الابتدائية عام 1370هـ، وهذا دليل على دقة معلومات هذا الكتاب، إذ أورد صورة مكتوبة باليد من أسماء الطلاب، والطالب الذي يدرس في المدرسة آنذاك سيكون له اعتبارية في معاملة الرجال له، لأن الطفل في ذلك الزمن لا يعامل إلا كما يعامل الرجل الراشد، أي أنه يوكل له مهام أكبر من سنه ولا توكل اليوم لمن هو في السابعة عشرة!!.
الكتاب مملوء بالوثائق المهمة التي يحتاج إليها الباحث الدقيق الذي يستنتج منها أشياء كثيرة.
وميزة الكاتب أنه يتحدث بلا حرج ولا وجل، بل قد ذكر قصصاً لفقره ومرضه وعلاجه وكيفية أضاعة كدح سنتين في سيارة غادرت الرياض للأرطاوية ثم إلى قبة، والمبلغ الذي تم الحصول عليه من تعب شاب مراهق يعمل في الرياض لسنتين ذاق فيهما المر والجوع والفقر كان 90 ريالاً فقط وهي تعتبر كسباً ثميناً يومها، لكنه أضاعه ثم لحق بالسيارة ووجده!
جاء الكتاب بشكل مذكرات يومية دوّنها الكاتب من الذاكرة فقط، أي أنه ليس ممن يكتب حدثاً كل يوم بيومه كما يفعل الرحالة الغربيون، ويبدو لي أنه لم يكن في اعتباره أن يكتب هذا الكتاب، لأنه جاء للحياة يتيماً ثم بدأ رحلة الكفاح في زمن لا يرحم الضعيف، فكان شغله الشاغل كسب القوت، ولم يكن لدى الرعيل الأول وقت للتسلية أو القراءة أو حتى التفكير في شيء علمي، بل همّهم التفكير في لقمة اليوم فقط، أما لقمة الغد فكما يقولون في أمثالهم الشعبية (في سلّة السيف فرج) وهو تعبير عميق جداً، ويعطي مضموناً للاتكال على الله، أي أن اللحظة ما بين سلّ السيف من جرابه للقتل وبين الإهواء به يكون هناك متسع للفرج من الله ، ومن هنا قال الكاتب: شاء الله الخالق المتكفل بعباده ظهور صاحبكم للوجود في سنين عجاف اعتراها شقاق وخلاف وشح في الموارد وقلة في الكوادر تحفه العناية الإلهية ليجد نفسه رقماً هامشياً في هجرة بادية حديثة التهجير (الأرطاوية)أ.هـ
فهل مثل هذا الطفل سيسجل شيئاً في دفتر المدرسة يومها؟ أعتقد أن هذا لم يفعله يومها حتى ممتهنو الحرف.. لكن مع ذلك جاءت ذاكرة أبي عبد المحسن قوية الاستذكار بالرغم من أنه قال عنها: الذاكرة التي لم تعد تحتقظ بشيء كثير مما مرّ عليها. أ.هـ
هناك رسالة وقصيدة موجهة من ابنة أخته وفي نهايتها عبارة قالت: البنت جواهر بنت محمد بن مطلق.. وكانت رسالة مؤثرة جداً، ثم أتبعتها بقصيدة مؤثرة أكثر. الكتاب جيد ليقرأه جيل اليوم ليعرف كيف كان كفاح الأجيال الذين كانوا قبلهم من أجل إثبات وجودهم وحياتهم المستقرة ليحتلوا مواقع جيدة كواجهات للمجتمع النامي.
يبدو لي أن الكتاب سيثير كثيراً من الضجة، لأنه يتحدث بوضوح، وهذا ما لم يتعوّد عليه الكثيرون لدينا، لكن هو كتاب فيه الكثير من الفوائد والفرائد التي قلّ أن تجدها في السير الشخصية. حقيقة استمتعت بالقراءة في هذا المجلد الذي قلّ أن نجد مثله سبكاً ومعنى، وفعلاً ربطني بشخوص كنت أعيش معهم من رعيل الإخوان الأنقياء الأتقياء في هجرة الداهنة في طفولتي.. والله المستعان.
للتواصل مع الكاتب
فاكس : 2372911
abo_hamra@hotmail.com