Al Jazirah NewsPaper Sunday  21/12/2008 G Issue 13233
الأحد 23 ذو الحجة 1429   العدد  13233
آبار البيصية

إنها متعة الإنسان أن يرى ويتفكر ويحاول أن يجد حلولاً لما يتساءل عنه. إنها المتعة التي يخالطها الألم، متعة رؤية شيء أنت عاجز عن تفسيره، وألم العجز عن تفسير ذلك الشيء. ويحدث الوقوف على المواقع القديمة أي كان نوعها للإنسان ذلك الشعور المزدوج رغم تنافره في متعته وألمه.

وعندما يذكر موقع أثري أتشوق إلى رؤيته وزيارته وأحاول كل جهدي أن أقوم بها، ويزداد شوقي فأجبر ظروفي على الاستجابة لقيامي بزيارة الموقع. ومن المواقع التي ذكرت ليّ موقع لآبار يقع في نفود الثويرات إلى الشمال الشرقي من مدينة الزلفي بما يقارب التسعين كيلاً، وإلى الجنوب الغربي من الأسياح بستين كيلاً على درجة العرض 26.56.533 وخط الطول 044.24187، ويبعد عن موقع آبار البعايث بعشرين كيلاً تقريباً حسبما ذكر أحد العارفين حسب ظني.

وجاءت المناسبة عندما قرأ الأستاذ خليف العيد (محب الآثار) مقالاً لي في هذه الصفحة، نشر عن رحلة استطلاعية إلى آبار البعايث بعنوان (رحلة في صحراء الثويرات، الجزيرة، الأحد 14 من رمضان 1429هـ - 14 أيلول (سبتمبر) 2008، العدد 13135، ص 16)، فبعد نشر المقال هاتفني قائلاً إن ما سبق أن ذكر ليّ ليس بآبار البعائث إنما هي آبار البيصية التي يزيد عددها عن مئة وخمسين بئراً، ودعاني لزيارتها وقمت بصحبة الشيخ المحامي عبد العزيز بن محمد الغزي والدكتور أحمد بن محمد العبودي بزيارتها يوم الخميس الموافق 23-10-1429هـ . بدأنا الرحلة من الرياض ثم الزلفي ثم عبر نفود الثويرات مروراً بقرية المنسف ثم الثوير ثم سنيدان ثم البعيثة ثم أم الشيح، وعندها انتهى الخط المزفلت فانحدرنا ناحية الشرق، مع خط معبد في أوله ورملي في جل مساره، إلا أنه سهل وواضح ومستقيم إلى حدٍ ما، وبعد مسافة تقل عن العشرين كيلاً وصلنا إلى الموقع.

وخلال تجولنا في الموقع جاء إلينا الأستاذ خليف العيد وزميله عبد الرحمن الحبيشي وطلبا منا أن نرافقهما حيث يوجد مجموعة من الرحالة وضيوف من منطقة القصيم لنتناول طعام الغداء الذي أعده الأستاذ صالح الشايع أحد أصدقاء البر. وتحت ظلال أشجار نخيل وكين في مزرعة صحراوية، أمضينا جزءاً من الوقت وتناولنا طعام الغداء وتجاذبنا أطراف الحديث. وكان الحديث إلى تلك المجموعة مفيداً، فقد شاركتنا حب معرفة تفاصيل تاريخ الإنسان خلال استقراء آثاره، وهنا يجب أن أقول إننا نجد من يشاطرنا اهتماماتنا أينما سرنا، فتعددت فرق الرحلات والاستكشافات، فاتصل بنا الضابط والمهندس والطبيب والتاجر سائلين ومتسائلين، والبعض منهم نشر أعماله في كتاب أو كتب، فهذا يدل على نمو الوعي الثقافي التراثي والاهتمام بالتاريخ وعبره.

وبعد أداء صلاة الظهر والعصر قصراً وجمعاً توجهنا إلى موقع النقوش والرسوم الصخرية الذي يبعد عن موقع الآبار ناحية الشرق بحوالي كيلين وعلى استقامة واحدة، ففي بطن الخبة توجد أحجار ذات أوجه سود لا ترتفع عن سطح الخبة إلا بمقدار ارتفاع الحجر ذاته أي متر تقريباً. وعلى أوجه تلك الأحجار حزت رسوم صخرية لبعض الحيوانات أكثرها وجوداً الغزال، كما توجد بعض الحروف والوسوم.

يحتل موقع الآبار منطقة صبخة تحف بها سلسلتان من الكثبان الرملية المتوازية، ويظهر مكانه وكأنه مجرى وادٍ كان يجري في العصور القديمة، إلا أن الرمال الزاحفة قضت عليه مع مرور الوقت. تحتل الآبار المنطقة الجصية وتقرب من السلسلة الرملية الشمالية.

تظهر الآبار من حيث الانتشار المكاني وكأنها أوجدت بخطوط متوازية تنتظم على كل خط مجموعة منها. وتشغل منطقة قد يصل طولها نصف الكيل وعرضها مثله.

ومن حيث تقنية الحفر فيظهر أنها اعتمدت على النحت المستدير إذ تظهر غالبية الآبار بأقطار تتماثل في أعالي الآبار وأسافلها. وعند الحلق تطوى بأحجار غير منتظمة الشكل، ولكنها شكلت لتضيق فوهة البئر لكي يمكن أن تغطى بإحكام لكي لا تدفنها الرمال، وربما أن الطوي أتى متأخراً وربما أن ارتفاع مستوى سطح الأرض بعد حفر الآبار، هو الذي حتم أن تطوى الآبار بأحجار لتحميها من الاندفان بفعل الرمل المتراكم عبر السنين، وأحياناً استخدمت الأخشاب لتكون حلقاً لفوهة البئر توضع عليه ألواح حجرية تغطيها. وفي بعض الأمثلة استخدمت الأحجار الجصية لطوي الجزء الأعلى من البئر، ثم بُني عليها حلق بارتفاع يصل إلى الثلاثين سنتمتراً، وداخل هذا الحلق يوضع غطاء فوهة البئر.

وتوجد الآبار في هذا الموقع متقاربة إذ لا يفصل الواحدة عن الأخرى إلا بضعة أمتار، وهذا التقارب المكاني يجعلنا نفكر في نظام الاستفادة منها، وهل كان في وسع موجديها أن يستخدموا كل بئر على حدة، أم أنها كانت عبارة عن آبار مرتبطة بقنوات سفلية تصل بعضها ببعض ثم تنحدر مياهها جميعاً إلى مكان أخفض إما أن يكون فيه أحواض وبرك أو مزارع، علماً إنني لا أعتقد أن نمط تلك الآبار صالح للاستخدام الزراعي، إلا إن كان يمثل كظائم يجتمع ماؤها ثم يستفاد منه عبر نظام قنوات جوفية طمستها الرمال وتحتاج إلى مسح فيزيائي يكشف عنها دون الحاجة إلى قلب الرمال التي تحتاج إلى جهد ووقت ومال، وقد لا يوفق الشخص في العثور على المكان الذي يحتوي على الأثر. وربما أنها كانت إحدى محطات طريق الحاج الكوفي، إذ يذكر البعض أنها محطة السمينة المعروفة في كتب البلدانيين التي يمر بها حاج الكوفة قبل أن يصلوا إلى النباج في منطقة القصيم.

لا شك أن المكان الذي توجد فيه الآبار مكان مناسب لاستيعاب آلاف البشر، فهو عبارة عن منخفض منبسط بين سلسلتين رمليتين وقليل النبات ويناسب نصب بيوت الشعر والاستراحة والتزود بالماء.

إنه من المثير جداً أن تجد أكثر من مائة وخمسين بئراً في مكان واحد، بالرغم من أن البعض منها مياهها قريبة حتى في الوقت الحاضر، إذ إن المستصلحة منها لا تبعد مياهها أكثر من مترين ولكن المسافرين سواء أكانوا حجاجاً أو تجاراً لابد أن يرتووا وترتوي دوابهم أيضاً، دواب النقل ودواب الأكل، كما يلزمهم التزود بالماء أيضاً من خلال تعبئة قربهم وأوعيهم الأخرى ليستفيدوا منها خلال المسير إلى المحطة الأخرى؛ ولا شك أن هذا يتطلب كمية كبيرة من الماء خصوصاً أن الجمال تشكل أغلبية دواب الركوب، والجمل الواحد يحتاج إلى ما يقرب من سبع مئة لتر من الماء للشربة الواحدة.

ونحن من الناحية الأثرية أمام ظاهرة جديرة بالاعتبار، ويمكن، في حالة مسحها ميدانياً، أن تضيف إلى معلوماتنا معلومات جديدة، فهذه الآبار توجد في أماكن نائية ووعرة مما يقرب احتمالية احتفاظها بكل ما فقده الأقدمون فيها، كما أن الآبار المطمورة قد تكون مصدر معلومات جيد بما تحويه من آثار سقطت فيها خلال استخدامها من قبل الحجاج والتجار. وعلاوة على ذلك فإننا نجهل نظام الاستفادة منها وكيفية ترابطها السفلى، فقد تكون كظائم حفرت لتجميع الماء عن طريق ربطها بعضها ببعض بقنوات جوفية ثم ربطها بقناة تنقل الماء إلى حوض تجميع منه يستفيد المزارعون والرعاة وسالكي السبيل وفق نظام معين.

إن عدد الآبار في تلك البقعة مثير للانتباه والتفكير. ولن يتهيأ لنا معرفة الاستفادة من تلك الآبار دون عمل ميداني منظم يبدأ بمسح الأرض المحيطة بالآبار هادفاً إلى معرفة إذا كان هناك منشآت معمارية طمرتها الرمال؛ فالمنطقة رملية بالكامل وسلاسل الكثبان الرملية تحيط بها من كلا الجانبين، وروي لنا البعض وجود عدد من القرى داخل نفود الثويرات اندثرت تماماً واختفت تحت الرمال الزاحفة. ثم تمسح الآبار وينظف عدد منها ويفرغ من الماء لمعرفة إن كان هناك قنوات جوفية تربطها بعضها ببعض؛ فإن وجد شيء يواصل العمل للكشف عن مثيلاته حتى يصل إلى القناة الأم التي تحمل الماء من الآبار إلى حوض التفريغ، وبمعرفة القناة الأم يمكن معرفة مكان حوض التفريغ، وبمعرفة حوض التفريغ يمكن معرفة مكان وجود القرية ومزارعها إن كان هناك قرية وهكذا يحل لغز وسر هذه الآبار أو الكظائم.

د. عبدالعزيز بن سعود الغزي
رئيس قسم الآثار - كلية السياحة والآثار - جامعة الملك سعود



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد