د. حسن الشقطي
لعل القارئ للأحداث ليستشرف أن تقرير ميزانية العام الجديد (2009) ليس بالأمر اليسير في ظل تلبد غيوم الاقتصاد العالمي بأزمتين كلاهما تفوق الأخرى في حدتها. بداية الأزمة المالية العالمية والتي تسببت في حد ذاتها في أزمة أخرى تتبلور في بدء ركود فعلي بدأ يترجم في انخفاض حاد في الطلب على النفط، ومن ثم تراجع حاد في أسعاره، والذي أصبح في حد ذاته يقود مظاهر الكساد العالمي المخيف المتوقع حدوثه في عام 2009م.
وإذا كان هذا الكساد يمثل هاجسا لأحد فإنه يعتبر من أكبر الهواجس التي يمكن أن تصيب صانعي قرارات الميزانيات الحكومية، وتزداد هذه الهواجس إذا كان الاقتصاد الوطني يعتمد على الإيرادات النفطية بنسبة تتجاوز الـ 80% مثل الاقتصاد السعودي.
وبالنسبة لميزانية عام 2008، فقد بدأت تقديراتها على أساس توقع حدوث فائض بنحو 40 مليار ريال، على أساس إيرادات في حدود 450 مليار ريال، ومصروفات في حدود 410 مليار ريال. وقد ظهر جليا آنذاك من توزيع المصروفات أن الميزانية كانت تتجه إلى تعزيز الإنفاق الحكومي ولكن بشكل يعزز السيطرة على التضخم الذي انتشر منذ منتصف عام 2007 وزادت حدته في نهاية العام الماضي.
وقد بنيت ميزانية عام 2008 في ظل فترة كانت أسعار النفط تتراوح فيها ما بين 85 إلى 90 دولار للبرميل (خلال نوفمبر/ ديسمبر 2007). ومن المعروف أن الميزانية السعودية دائما ما تبنى على التحفظ في التقديرات، وعدم التفاؤل كثيرا بهذه الأسعار تحسبا أن تنكسر في أي لحظة. وبالتالي فإنه من المعتقد أن ميزانية عام 2008 بنيت على أسعار تقديرات لسعر برميل النفط في حدود 40-50 دولار.
لذلك، فإنه في ظل الاضطراب الشديد الذي ساد أسعار النفط (حيث أنها صعدت حتى بلغت 145 دولار، ثم انكسرت حتى لامست 37 دولار مؤخرا) فإن البعض بدأ يعطي تقديرات متشائمة للميزانية الفعلية لعام 2008، تحت اعتبار التراجع الحاد المتوقع في الإيرادات النفطية الفعلية. إلا أن المدقق ليكتشف أن متوسط أسعار النفط خلال عام 2008 ككل (حتى رغم التراجع الحاد) لم ينحدر عن 100 دولار، وهو سعر يفوق كافة مستويات أسعار النفط خلال السنوات السابقة، وبالتالي فإن الفائض الفعلي في ميزانية 2008 يتوقع أن يفوق بكثير حجم الفائض التقديري عند بداية صياغة الميزانية. أي أن الأداء الفعلي لميزانية عام 2008 يتوقع أن يكون جيدا وإيجابيا وأعلى من تقديراته.
إلا أنه رغم ذلك، فإن المشكلة قد لا تكون في الميزانية الفعلية لعام 2008، ولكن المشكلة الحقيقية قد تكون في كيفية صياغة الميزانية التقديرية لعام 2009، والتي إن اعتمد صانع القرار فيها على تقديرات متحفظة كعادته، فإنه ينبغي أن يبني إيراداته المتوقعة بناء على أسعار لا تتجاوز 15 دولار لبرميل النفط لأن تراجع الأسعار العالمية أصبح أمرا يوميا ودوريا، وهو يرتبط بحجم الطلب والذي يرتبط في حد ذاته بالنمو الاقتصادي، والذي هو بات غير مضمونا في ظل بدء ركود في كافة الاقتصاديات المستهلكة للنفط. لذلك، فإنه حتما ينبغي عدم تجاوز تقديرات السعر التقديري للنفط عن 15 دولار للبرميل التي يمكن أن يقبع عندها السعر العالمي بسهولة خلال أشهر قليلة مع تزايد حدة الركود العالمي.
وعليه، فإن حجم الإيرادات النفطية قد ينخفض بحدود النصف تقريبا عن مستوى عام 2008، أي أنها قد تصل إلى مستويات ميزانية عام 2002-2003-2004م. وهو الشكل الذي يمكن أن يؤثر على إجمالي الإنفاق في العام الجديد 2009. إلا أنه مع ذلك، فهناك إمكانية واحتمالات قوية أن لا نرى تنازلات عن مستوى مصروفات العامين السابقين، وذلك في الحالات التالية:
(1) الإبقاء على ذات مستوى مصروفات عام 2008 من خلال قدرة صانع القرار على تدبير الفرق الناتج عن انخفاض الإيرادات النفطية من فوائض أخرى.
(2) الإبقاء على ذات مستوى مصروفات عام 2008 مع قبول حدوث عجز في ميزانية العام الجديد 2009م.
(3) الإبقاء على ذات مستوى مصروفات عام 2008 مع وضع توقعات أن تعود أسعار النفط إلى مستوى ما فوق الـ 70 دولار مع منتصف عام 2009م.
وإذا كان البديلان الأول والثاني مقبولين، فإن البديل الثالث لا ينال قبولا، لأنه ينفي التحفظ في التقديرات، ويبني الميزانية على أساس ضعيف.
أخيرا، فإن الإبقاء على مستوى المصروفات لعام 2008 في حدود الـ 400 مليار ريال إذا كان أمرا من قبيل التوسع واستهداف مزيد من النمو في عامي 2007 و2008 (حسب التوقعات)، فإنه يعتبر ضرورة في عام 2009، نظرا لأن الاقتصاد العالمي يمر بركود، والاقتصاد الوطني لن يكون بمنأى عن ذلك. وبالتالي، فإن الضرورة تفرض مستوى إنفاق عالي لدفع حركة النشاط الاقتصادي خلال عام 2009، وهو العام الذي تدور حوله التكهنات كأسوأ عام اقتصادي على مستوى الفترة منذ عام 2000. فكيف ستبنى هذه الميزانية؟ هذا ما يترقبه الجميع خلال أيام قليلة.