بدعوة كريمة من الأخ الصديق الدكتور زياد بن عبدالله الدريس ممثل المملكة العربية السعودية الدائم في منظمة اليونسكو كنت من المشاركين في مائدة مستديرة نظمتها مجموعة دول عدم الانحياز الأعضاء بالمنظمة.
وكان اللقاء في باريس يوم الأربعاء 5- 12-1429هـ الموافق 3-12-2008م، حضرت وشاركت فيه بورقة حول مصير ستين سنة من الإعلان الدولي لحقوق الإنسان (الجمعة 8-2-1368هـ - 10- 12-1948م)، ومدى تحقيق بنود هذا الإعلان التي بلغت ثلاثين بنداً أو مادة، مما يستدعي وقفة تقويم متأنية، ينبني عليها إعادة النظر في بنود الإعلان بما يتوافق مع المرحلة القادمة التي ظهر عليها توظيف الثقافات المتعددة.
كان التركيز في الورقة هو الوقوف مع إشكالية المصطلح، إذ لا يزايد أحد من الناس على مختلف مشاربهم السياسية والعلمية والفكرية على مفهوم حقوق الإنسان وأنه مطلب ملح لا تستقيم الحياة دون، مثله في ذلك مثل حقوق الحيوان والبيئة. إلا أن الإشكال في المصطلح وفرض نموذج منتقى من ثقافة مهيمنة على ثقافات أخرى قد يقال عنها إنه مهيمن عليها.
لكن الأمر يتعلق برفض النموذج المنتقى دون النظر إلى الخصوصيات الثقافية التي لا تتعارض مع المفهوم، لكنها تفهمه بصياغات أخرى، مما يؤكد ضرورة مشاركة الثقافات الأخرى في الصياغة إذا أريد للإعلان أو النظام أو القانون الدولي أن يكون قريباً جداً من التطبيق والتبني من قبل أهل الثقافات، أو يكتفى بأن يكون هذا الجهد استئناساً واسترشادياً لا تحاسب المجتمعات على التقصير في تطبيق بعض مواده إذا كانت بعض مواده تتعارض بوضوح مع مقوم ثقافي معتمد.
المعلوم أن الدعوة إلى الاستثناء الثقافي لم تكن دعوة من دولة نامية وإلا لم تلقَ الاهتمام، وإنما الذي دعت إليه وزيرة الثقافة والنشر كاثرين تراوتمان سنة 1413هـ-1993م في مواجهة صريحة لمنظمة القات، وتمثيلها للثقافة الأمريكية عموماً والفنية خصوصاً.
لم يكن المجال في الورقة هو مجال بيان حقوق الإنسان في الإسلام بصيغة دفاعية، وإنما كان البيان مركزاً على وجهة النظر الإسلامية في حقوق الإنسان وإعطاء نماذج من المبادئ التي قام عليها الإسلام وحاسب من يتعدى عليها.
ومن ذلك حفظ الضرورات الخمس للإنسان التي عرَّف بها الشاطبي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل، وهذه تكفل تحقيق كرامة الإنسان التي جاء بها الدين الحنيف وأكد عليها، بالإضافة إلى تحقيق الاحتياجات التي عرفها الإمام أبو حامد الغزالي، ثم تبناها ابراهام ماسلو، فنسبت إليه في المناهج دون أن تنسب إلى الإمام الغزالي. وعلى أي حال فإن منطلقنا الأصولي في الإسلام القاعدة الأصولية: مقاصد الأحكام مصالح الأنام. (وتقتضي مصالح الأنام تحقيق حقوق الأفراد والجماعة بقدر من التوازن لا يسمح بطغيان أحدهما على الآخر. فلا حقوق للفرد على حساب الجماعة، ولا حقوق للجماعة على حساب الفرد). كما ورد في نص المحاضرة.
كان المجال التركيز على غموض المصطلح مثلما هي الحال مع مصطلح الإرهاب الذي مفهومه هدر لحقوق الإنسان. إلا أن المصطلح نفسه ليس واضحاً بين الثقافات بحيث يتوصل إلى صيغة واحدة، وإن يكن هناك اتفاق على نبذ الإرهاب الصريح.
ومع هذا فإن في الساحة العلمية والرسمية حوالي (110) تعريفات للإرهاب، اختلطت معها مفهومات تقرير المصير، كما هي الحال في القضية الفلسطينية التي يبرز فيها الخلل الواضح في تعريف الإرهاب، عندما يعد ما يقوم به الفلسطينيون إرهاباً، وما يقوم به اليهود في فلسطين المحتلة ليس إرهاباً. وهذا يثير دائماً قضية الازدواجية في المفهوم الواحد، ومن ثم الكيل بمكيالين.
والتعريف المتفق عليه لحقوق الإنسان وما ينقض هذه الحقوق كالإرهاب لا يحتمل أكثر من تعريف دقيق. هذا الطرح جعل السفيرة الهندية الدائمة في اليونسكو تعترض على عدم الاتفاق على مفهوم دقيق للإرهاب، وتؤكد أن ما حصل في مومباي لا يحتمل أي مفهوم سوى أنه عمل إرهابي، على اعتبار أن الإرهاب هو في نتيجته هدر لحقوق الإنسان.
وكانت في طرحها عاطفية. فعلقت على مداخلتها بالموافقة على ما طرحته وأن هذا المحاضر لا يتفق مع هذا الأسلوب ولا بلاده توافق عليه ولا دينه الذي ينتمي إليه يجيز هذا الإجراء، مهما كانت الحال عليه التي يتعرض لها إقليم كشمير الذي نصبه الاستعمار لتكون من نتائجه هذا الأسلوب الذي اتهم فيه بعض الأشخاص المنتمين لجماعة إسلامية. ولا يزال الموضوع مجال تحقيق. ومهما تكن نتيجة التحقيق فإن الفعل نفسه مرفوض، لأنه يتعارض مع إحدى الضرورات الخمس التي ورد ذكرها، وهي حقوق يتفق فيها المسلم وغير المسلم.
في نهاية الجلسة الأولى التي شاركت فيها بالورقة توجهت للسفيرة الهندية وأكدت لها ما ذكرته، لا تعاطفاً معها، ولا اعتذاراً لها، ولكنه المبدأ الذي لا مزايدة فيه. فأكدت لي أن المقصود بمداخلتها خوفها من بعض الحضور أن يفهموا طرحي على غير ظاهرة. ورغم أني لم أقتنع بردها إلا أنني بينت موقفي بوضوح.
وعلى العموم لاقت الورقة -ولله الحمد- قدراً من الاستحسان، وطلب من المنظمة ترجمتها أو ملخص لها لينشر مع الأصل العربي في وقائع اللقاء. وتبعها دعوات للمزيد من الطرح المباشر والناقد للصياغات القانونية التي لم تراع الثقافات الأخرى، مما سيكون له إسهام في الأثر الإيجابي على الصياغات القادمة لأي إعلان أو نظام أو قانون دولي. وهذا كان ديدن هذا الكاتب في المحافل الدولية التي تيسر له الاشتراك فيها بأي شكل من أشكال الاشتراك. ولا يقصد من ذلك إبراز ما قام به هذا الكاتب من جهد المقل الذي هو جزء من الواجب تجاه دينه ووطنه. وكان الله في عون الجميع.