Al Jazirah NewsPaper Wednesday  17/12/2008 G Issue 13229
الاربعاء 19 ذو الحجة 1429   العدد  13229
البروفيسور المسيري.. مفكر القرن
د. عبدالله البريدي

غريب حقاً من المفكر السعودي الأستاذ إبراهيم البليهي قوله: إن جميع إنتاج الدكتور عبدالوهاب المسيري - بجانب إدوارد سعيد - كان مسيئاً أكثر من فائدته، بحجة أن ذلك الإنتاج - كما يقول البليهي - قد وسّع (الهوة بيننا وبين الغرب وزادنا كراهية له، في حين أننا لم نكن في حاجة إلى تلك الكراهية، لأنها موجودة عندنا من قبل)،

وذلك بحسب ما جاء على لسان البليهي في جريدة الحياة في 13-11-2008م، والتي نقلت عنه قوله أيضا: بأنه لا يوجد مفكر عربي واحد يستحق القراءة!

سأفتقد قدراً من مصداقيتي حين لا أفصح أنني كنت أتوقع أن يكون موقف الأستاذ البليهي سلبياً إزاء (فكر) المسيري، فقد قلتُ شيئاً من هذا لأحد الأصدقاء حينما سألني عن عدم سر احتفاء أو حتى ذكر البليهي للمسيري، وكان ذلك قبل نحو سنة ونصف، غير أنه ساءني كثيراً كثيراً تلك العقلية (الإقصائية) التي تلبّست الأستاذ البليهي؛ فنسف بها إنتاج أكثر من أربعين سنة لذلك المفكر العملاق بكليمة صغيرة كبيرة!... فهل يروم البليهي إقناعنا بأننا يجب ألا نمارس أي نقد للثقافة الغربية حتى لا يكون ذلك سبباً لكره (البعض) لتلك الثقافة ومن ثم عدم الأخذ بحسناتها والإفادة من تفردها وتميزها في بعض الجوانب العقلية والإنسانية والسياسية ... ألا يعتقد الأستاذ البليهي أن كل ثقافة (حية) لا بد أن تمارس العملية النقدية الصارمة لجميع الظواهر الثقافية سواء كانت في محيط فكر (الأنا) أم فكر (الآخر)، مع ما يقتضيه ذلك من العمل الدؤوب والمضني من أجل تأسيس قواعد صلبة للعقلية المنهجية التي تدرك كيف تتعامل مع الأفكار والشخصيات والأحداث والأشياء، وماذا تأخذ؟ وماذا تدع؟ ولماذا؟ ومتى؟ وكيف؟ أليس في ذلك الطرح الغريب (وصاية مطلقة)، طالما حذر البليهي - وسائر المثقفين - من مغبة الوقوع بها أو الاستسلام لها، بل ألا يعد ذلك الطرح مسخاً للعقل العربي وسحقاً له لكينونته الذهنية... نعم نرفض هذا المنطق الإقصائي غير المنهجي الذي يقوم على نقد نعده الأضعف، ف (النقد المطلق ضعف مطلق)، فهل يراجع الأستاذ القدير إبراهيم البليهي - بفروسية المفكر - تعليقاته غير المنهجية التي لا تتناغم - مدلولاتها فضلاً عن مآلاتها - مع كثير من المبادئ التي يدعو إليها في طروحاته الفكرية والفلسفية المعمقة فيعترف بخطأ قوله، على الأقل خطيئة التعميم التي مارسها بشكل لا مسوّغ له البتة، أم يتشبث البليهي بما قاله، أخذاً بمبدأ (عصمة المفكر) في ثقافتنا العربية المعاصرة؟!

***

في مقالات سابقة قمنا على نحو مكثّف باستعراض النتاج (المسيراوي) لمفكر القرن الدكتور المسيري حيث تناولنا إنتاجه الثر في سبعة أقسام، هي: الفكر اليهودي والحركة الصهيونية، فقه التحيّز، مفاهيم ومصطلحات معاصرة، المسألة الحضارية، الدراسات الأدبية واللغوية، كتب الأطفال، السيرة الذاتية، ولما نحصر همنا آنذاك على تقريب ذلك النتاج للقارئ العربي الذي لم يتمكن من الاطلاع التفصيلي على إسهامات الدكتور المسيري.

وقد يكون من الملائم في هذا السياق الإشارة إلى أن المسيرة البحثية والفكرية للمسيري شهدت عدة تحولات جوهرية، غير أنه من الملائم استعراض أبرزها في ضوء تحوله الكبير من فضاء (المادية الطبيعية) إلى رحاب (الإنسانية المؤمنة)، وذلك بحسب ما يتسع له المقام كما في البنود التالية:

1- تجاوز أوهام (الموضوعية الفوتوغرافية) أو (المتلقية) بحسب الفلسفة (الوضعية) نحو (الموضوعية الاجتهادية) أو الموضوعية المتعقلنة أو النسبية. وقد وصف سيرته - كما في كتابه رحلتي الفكرية- بأنها (سيرة غير ذاتية غير موضوعية)، وهو يستطيع أن يُدخل مصطلحاته الجديدة (الموضوعية الاجتهادية)، غير أنه آثر أن يمارس نوعاً من (التحدي) للعقل العربي الذي هيمنت عليه الموضوعية المتوهمة ل (الفلسفة الوضعية).

2- التمرد على قيود (العقل السلبي) إلى (العقل التوليدي)، حيث يرى أن العقل الإنساني لا يقف مكتوفاً أمام الواقع يلتقط الفتات بل هو عقل يمارس التحليل والتفكيك والتركيب للواقع ليصل إلى تفسيرات وجيهة، وقد انبثق هذا من التحول الأول، فرفض الموضوعية الفوتوغرافية - بحسب المسيري - يعني أن العقل (ليس مجرد وعاء مادي متلقٍ للمعلومات) (انظر كتابه رحلتي الفكرية، في البذور والجذور والثمر - سيرة غير ذاتية غير موضوعية،، ط2، 2006م، 343)،، ويربط البروفيسور المسيري فكرة التوليدية للعقل بفكرة إسلامية أساسية وهي (الفطرة).

3- تعميق الفهم الإنساني من خلال (النماذج المعرفية)، ويؤكد الدكتور المسيري على أن الإنسان يستخدم مثل تلك النماذج سواء كان ذلك بشكل صريح أو ضمني. ويذهب المسيري إلى أن الهدف من بناء النموذج هو تصنيف الظواهر وتفسيرها، وإذا تمكّن النموذج من تفسير أكبر عدد من الظواهر أكثر من غيره فهو (أكثر تفسيرية)، وإلا فهو (أقل تفسيرية)، ومن أهم مزايا هذين المصطلحين - كما يقول المسيري - أنهما لا يستبعدان دور العقل في عملية رصد الواقع، مما لا يجعله اجتهاداً نهائياً، بخلاف مصطلحات (الموضوعي) و(الذاتي) المنبثقين من المدرسة الوضعية، فهما يصدران من اجتهادات نهائية (انظر: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، ص 21).

4- الإقدام على تشغيل (مكنة التحيزات)، وينظر المسيري إلى التحيز من زاوية ذكية حين يقرر بأن (كل شيء، كل واقعة وحركة، لها بعد ثقافي، وتعبر عن نموذج معرفي وعن رؤية معرفية) (انظر: فقه التحيز، المقدمة، ص 30) .

5- الجرأة على المزج المدهش بين (نخبوية الفكر) و (شعبوية الإصلاح)، ويتمظهر ذلك بعدة مظاهر، من أهمها اشتغاله المكثف بالهم العام، ومشاركته السياسية الواسعة، وتطبيق فكرة (التلمذة) لعدد كبير من الطلاب والطالبات.

مع ملاحظة أن الدكتور المسيري قد نص في كتابه (رحلتي الفكرية) على التحولات الثلاثة الأولى التي أوردناها آنفاً، أما التحولان الرابع والخامس فهما وضع الكاتب، بعد تحليل الأبعاد الجوهرية في الأدبيات والجوانب الفكرية للمسيري.

نعاود التأكيد على أن الإسهام الأكبر للدكتور عبدالوهاب المسيري ليس (موسوعته العلمية) بل (موسوعيته المنهجية)، وقد أفلح الدكتور المسيري بذلك من إدخال (مناهج تفكير جديدة) في الأجهزة المعرفية العربية والإسلامية، بل لقد ذهبنا إلى ما هو أبعد من هذا القول ذلك أن المنتجات المنهجية والفكرية التي أنتجها المسيري أفلحت في صناعة (لحظة تفكير فاصلة) للعقل العربي في فضاء الفكر والعلوم الاجتماعية والإنسانية من خلال قدرته المذهلة على نحت (المصطلحات الانعكاسية) وبناء وتطوير (النماذج الإدراكية) و(النماذج التفسيرية)، وقد أوضحنا ذلك سابقاً، وأبنّا عن حيثياته ومسوغاته، وهنا نشدّد القول على أن التراث الكبير والمتنوع للمسيري في مجالاته المختلفة يحتاج إلى جهود بحثية كبيرة تتسم بقدرة فائقة على القراءة التحليلية النقدية لذلك التراث، في عملية منهجية صارمة، مع ضرورة إحداث (التراكمية المعرفية الواجبة)، تلك التراكمية المنشودة المفقودة في بناء ثقافتنا العربية الإسلامية المعاصرة.



beraidi2@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد