يغشى مفهوم العلاقة بين الدين والعلم شيء من الضبابية وعدم الوضوح. وليس مرد ذلك لا إلى الدين ولا إلى العلم بل إلى إفهام الباحثين وما يلبسونه على الدين وعلى العلم -منفردين- من تعاريف ومعان مختلفة لا تتعارض إلا عندما يصاحب محاولة الربط أو الفصل بين الدين والعلم سوء اختيار التعريف أو المعنى الملائم.
فلنقابل بين معاني الدين والعلم لنرى أيلتقيان أم ينفصلان. إن الدين عقيدة. والعقيدة لا تصح إلا بالإيمان، الذي هو -كما تعلمنا- اعتقاد بالجنان وقول باللسان وعمل بالأركان. غير أن الإنسان لا يمكنه أن يعتقد في شيء لم يسمع عنه أو يعلمه أو يراه. فالعلم بالشيء يسبق الإيمان به.
والعلم الذي يتبعه الإيمان بالله إما أن يكون مصدره إلهياً منزلاً بالوحي ومبلغاً بالرسالات للناس، أو مما تدركه فطرة الإنسان أو يستنبطه فكره مصداقاً لقول الله عز وجل { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} فتجمع هذه الآية بين العلم الذي يأتي { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والإيمان { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً}. والعلم والإيمان ليسا الشيء نفسه. ولذا ورد في الآية الكريمة {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ....}. ذلك أن العلم لا ينفع بدون الإيمان والعمل به. وعلى سبيل المثال فقد كان كفار قريش يعلمون أن الله رب العالمين ولكنهم لا يعبدونه لأنهم لا يؤمنون به. لكن العلم أنواع: فهناك العلم الذي يتلقاه الإنسان في صورة معلومات يدخلها إلى مخزون معارفه ومحيط إدراكه. وهذا ينطبق على أي علم، كالذي نتلقاه من الكتب أو المنزل أو المدرسة أو مصادر المعلومات الأخرى، أو ما ندركه بحواسنا وإن كان أقل مرتبة من المصدر الإلهي الذي يبلغنا به الأنبياء وتتوافر به صفة اليقين المطلق. والعلم بهذا المعنى علم الشهادة. أما علم الغيب فإنما يتفرد به الله جل جلاله الذي أحاط بكل شيء علماً - من كون لا نهائي إلى مثقال ذرة. وهو غيب بالنسبة للإنسان جاهل به لا يعلمه. ولكن عليه أن يؤمن بالله بأن يعلمه، أي يعرف كنه الأشياء، ليس في حال وجودها بل قبل وجودها، لأنه الذي أوجدها. نحن نقرأ في سورة لقمان مثلاً أن الله يعلم ما في الأرحام، فهو يعلم قبل الحمل ماذا سيكون في الرحم، ويعلم أثناء الحمل ما الذي يتكون في الرحم وماذا سيكون بعد ذلك. لا يحتاج الله لعلمه آلة أو مساعدة أو بحثاً علمياً في حين أن الطبيب المتخصص في طب النساء والولادة لا يستطيع أن يعلم شيئاً من ذلك وهو واقف أمام امرأة حامل بدون اختبار وفحص.
لقد أشرت إلى العلم المتلقى -بفتح القاف- وإلى علم الغيب، فماذا عن العلم (المنهجي)؟
في رأي بعض الأساتذة الباحثين (مثل الدكتور خالد الدخيل في مقالاته بجريدة عكاظ - ملحق الدين والحياة) أن العلم هو الأداة أو المنهج الذي يوصلنا إلى المعرفة. فهو استخدم المفردة المشتقة من اللاتينية science بمعنى العلم مقابل كلمة knowledge بمعنى المعرفة. في حين أن اللغة العربية تستوعب المعنيين في مفردة العلم. فهل العلم بهذا المعنى المحدد -أي العلم المنهجي- ليس من الدين في شيء - أي هل يمكن فصله عن الدين؟
للإجابة عن هذا التساؤل نستعين ببعض التعاريف الاصطلاحية لمفهوم العلم science. فإن من أهم خصائص هذا العلم أنه يقوم على الملاحظة والمشاهدة والتجربة والتحليل ثم الاستنتاج - وهذا هو المنهج العلمي المتعارف عليه. لكن نتائجه لا تكون قاطعة أو (علمية) إلا إذا أمكن تكرارها من أكثر من مشاهد أو في أكثر من مشاهدة أو تجربة. فهل نجد مقابلاً ذلك فيما يتناوله الدين؟
نعم نجد ذلك في علوم الفلك - على سبيل المثال. فحساب منازل القمر التي قدرها الله وعلم الناس لعدد السنين والحساب من ظاهرة اختلاف الليل والنهار، لم يكن ليأتي بالإلهام والحدس، بل بالملاحظة الدقيقة والتيقن من صحتها من خلال تكرار الظاهرة التي تتم ملاحظتها وتسجيل نتائج المشاهدات سواء باستيعابها في الذاكرة أو توثيقها كتابة.
وفي غير الفلك نجد التداوي مثلاً آخر لاحتواء الدين المنهج العلمي.
فقد حض نبينا محمد على التداوي فقال للأعراب الذين سألوه (نعم يا عباد الله، تداووا فإن الله عز وجل ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله) وكيف لامرئ أن يعلم أن هذا الدواء يصلح لذلك الداء، إن لم يكن عن طريق التجارب المتكررة أو البحث الدقيق؟ هذا التوجيه النبوي المرغب في التداوي يقابله التحذير الشديد من السحر الذي ليس من العلم في شيء لأنه يستند إلى الدجل والشعوذة والرجم بالغيب، ولهذا نجد في سورة (الفلق) أمرا للنبي الذي لا ينطق عن الهوى بأن يتعوذ من شر النفاثات في العقد -أي من شر السحر.
وعندما تأتي نتائج البحث العلمي مصدقة لأوامر الشرع، فلا موجب للاستغراب من الصلة الوثيقة التي تربط الدين بالمنهج العلمي. فالبعض منا يتذكر كيف كانت النظرة إلى التدخين قبل خمسين سنة. كان (المطاوعة) يتعقبون المدخنين لأنهم كانوا يرون في التدخين نوعاً من الخبائث التي ينكرها الدين. وكان المدخنون على عكس ذلك يرون في موقف (المطاوعة) تضييقاً لا مبرر له - فالدخان لا يسكر ولا يؤثر على الحواس. إلا أن الأبحاث العلمية أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك الأضرار الكثيرة التي يسببها التدخين - وأخطرها سرطان الرئة. فاليوم صارت مكافحة التدخين برنامج عمل للدولة. إن التداوي ومكافحة التدخين لا يمثلان لقضايا دنيوية بحتة، بل هما يحققان بعض مقاصد الشريعة وهي حفظ النفس. ويمكننا أن نمد قائمة الأمور ذات الدلالة الدينية التي يتم الحسم فيها على الوجه الشرعي من خلال المنهج العلمي. وأشير هنا إلى قضايا الطب الشرعي وإثبات النسب، والتبرع بالأعضاء ونحو ذلك من الأمور التي تتطلب للبت فيها تقصي الحقائق وأحدث مثال لذلك قرار توسعة المسعى الذي كان للإثبات العلمي دور في القطع بصحته. على أنه يغنينا عن ذلك كله الرجوع إلى القاعدة الفقهية المشهورة بأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وهذا نهج علمي في حقيقته، لأن الاستنتاج ثم الحكم يأتي بعد توفير المعلومات الصحيحة حسب نوع الموضوع، إما باستحضار الوقائع أو المشاهدات أو إجراء التجارب أو بها جميعاً. وهذا منهج عام تطبقه العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية مع اختلاف أداة البحث.
ومن الخصائص التي تلتصق بالعلم -أو المنهج العلمي- استبعاد النظريات أو النتائج أو الأحكام -إذا ظهر ما هو أصح منها يقينا، وفي هذا السياق نورد ما روي عن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضرب ذلك أولادهم شيئاً). وخلاصة ما أردت قوله أن الدين شرعة ومنهاج. ومن غير المقبول أن يقال إن المنهج الديني شيء والمنهج العلمي شيء آخر. فإن في هذا القول اختزالا للدين بقصره على القضايا الإيمانية والأخلاقية المسلم بها. لكن الدين الذي يشرع لحياة البشر يتسع لأكثر من منهج وفقاً لماهية التشريع ومجال تطبيقه. فالمنهج الإيماني الصرف نجده في أداء حق الله على العباد، أي أداء العبادات والالتزام بحدود الله. والمنهج التربوي نجده في أداء حق الناس والالتزام بحسن الخلق وأيضاً عدم التعدي على حدود الله ومراعاة الحلال والحرام في السلوك وكأي منهج تربوي هناك جزاء لكل مخالف. أما المنهج العلمي فإننا نجده في أداء حق العقل الذي يتمثل في التفكر والتأمل والاجتهاد والبحث عن خير البشرية ومصالح العباد. إن المنهج العلمي - في حد ذاته - محايد سواء كان العالم يتعصب لتخصصه تعصب المحب المتفاني -مثل عالم الدين أو عالم الأحياء أو كان يتتبع ظاهرة عجيبة لفتت نظره، أو كان يبحث عن إجابة لتساؤل أقض مضجعه، أو كان يسعى لتحقيق غرض ما. الدوافع تختلف ولكن المنهج واحد وليس في هذا ضير. وإنما الضير يحدث حين يساء استخدام العلم (المنهجي) فيما لا ينفع أو فيما يضر. ومهما يكن من أمر فإن العلم المبني على أسس منهجية لا يؤخذ بجريرة من يسيء تطبيقه أو يستخدمه في غير موضعه. فإن كان القول بأن الدين يجمع بين المنهج الإيماني والمنهج التربوي والمنهج العلمي صحيحاً ومقبولاً، فإن على المسلم -مثلاً- أن يعرف متى وأين يطبق المنهج الإيماني أو التربوي، أو العلمي. أما إذا خلط بين مجالات التطبيق، فإن ذلك حري أن يجره خارج حدود الدين، الذي هو أصلاً عقيدة وشريعة وليس وظيفة أو مهنة أو هواية. أو يوقعه في مشكلات قد تنتهي بعكس ما كان يتوخاه عن حسن نية. ومثال الحالة الأولى أستاذ ألماني مسلم في إحدى الجامعات الألمانية عبر عن شكوكه كعالم بحاثة في وجود محمد رسول الله (دير شبيجل سبتمبر 2008). مثل هذه القضية الإيمانية ليست مجال بحث لعالم مسلم.
ومثل الحالة الثانية ما أوردته جريدة عكاظ (29-11-1429هـ) عن الشيخ الدكتور زغلول النجار الذي اقترح أن تؤخذ عينة من مقام إبراهيم لتحليل مكوناته من أجل إثبات أنه من يواقيت الجنة كما روي عن محمد عليه الصلاة والسلام. وقد تساءل أحد علماء الأزهر عن جدوى ذلك - خاصة إذا أظهر التحليل أنه من صخور الأرض، فإن في هذا إساءة إلى أحاديث الرسول. هذه أيضاً قضية إيمانية. فالمنهج العلمي يتوقف عند حدود الإيمان، وليس عند حدود الدين. ولماذا يتكلف البعض إخضاع القضايا الإيمانية للمنهج العلمي، إذا كانت قضايا إنسانية أسهل تناولاً من الإيمان لا تقبل تطبيق المنهج العلمي مثل تذوق الأعمال الفنية!
إن إعمال العقل واستخدام المنهج العلمي في بعض جوانب الدين المرتبطة بظواهر طبيعية أو تاريخية أو اجتماعية أو ما شابه ذلك يخدم الدين ويوسع مدارك المؤمن ويحبط حجج المشعوذين أو الذين يدعون للخرافات أولا يلوون معاني الدين عن غايتها ويحرفون الكلم عن مواضعه ومن أجل ذلك نقول إن علاقة الدين بالعلم (المنهجي) science هي علاقة الكل بالجزء أي علاقة عضوية لا تنفصم.