Al Jazirah NewsPaper Wednesday  17/12/2008 G Issue 13229
الاربعاء 19 ذو الحجة 1429   العدد  13229
مركاز
الحاج مدبولي
حسين علي حسين

توفي قبل أيام في القاهرة الحاج محمد مدبولي وهو واحد من أقدم الناشرين وباعة الكتب في القاهرة، بل إنه صاحب أشهر قبو لبيع الكتب التي يجلبها من كل مكان لرواد مكتبته التي تحولت من كشك في ميدان طلعت حرب إلى شقتين واحدة علوية والثانية عبارة عن قبو تعرف بدايته عندما تنزله ولكنك قد لا تعرف نهايته، ومع هاتين الشقتين هناك المكتبة التي تنفذ أيضا إلى القبو، وهي صغيرة ومتخمة بالكتب الزهيدة والغالية الثمن.. وقبل هذا المقر كان لدى الحاج محمد مكتبة قريبة مواجهة لمقهى ريش ومطعم فلفله وقد باعها الحاج بثمن كبير لتنشأ عليها أو داخلها مكتبة لعرض المنشورات العراقية أيام عز صدام وطول يده وعمق جيبه حيث كانت تباع الكتب في هذه المكتبة بأبخس الأثمان وحيث كانت الملحقية الثقافية تقوم بدور كبير في عاصمة المعز لكن لأن دوام الحال من المحال أغلقت المكتبة حتى افتتحت قبل أيام لتسويق منتجات دار المدى!

عرفت الحاج مدبولي في وقت مبكر، بعد وفاة السادات مباشرة، وكنت أمضي وقتاً طويلاً بين كتبه وكان يعاملني باعتباري مصري الهوى فيجزل لي في النصح ويدلني على ما لديه من الكتب الجيدة وما هو ليس لديه كان يتعهد بجلبه لي، وكنت أقف معه أوقاتا ممتعة، فقد كان ودودا وصاحب فلسفة تغضب بعض الناس لكنها ترضي أغلبهم خصوصا الباحثين عن الكتب الممنوعة أو تلك التي لا تصدر عن مصر، فقد كان يقول إنه لو كان يريد الثراء لاختار تجارة الحشيش لكنه اختار تجارة الكتاب وتحمل في سبيلها عنت السلطة والجمارك ليوصلها لمستحقيها أو الباحثين بأسعار كان يرى أنها عادلة وليس ذنبه أن هناك من لا يستطيع دفع مائة جنيه في كتاب.. شخصيا كنت أدفع مع وافر الامتنان لرجل اختار عن طيب خاطر أن يكون ممولا للمثقفين، مضحيا بوقته وصحته ليجني في آخر النهار دراهم معدودات، لأننا نعرف أن قرش الكتاب عزيز، فالزبون على استعداد أن يدفع مائة ريال لتلميع رأسه عند الحلاق لكنه ليس على استعداد أن يدفع نصف هذا المبلغ لتلميع عقله!

معرفتي بالحاج مدبولي جعلتني أستعين به قبل ربع قرن للبحث عن شقة قريبة ورخيصة، وقد وجدت الحاج يتحمس للموضوع وكأنه سوف يبحث عنها لنفسه، فأرسل معي عدة مرات أحد عماله للمساعدة في البحث وكنت أسمعه وهو يوصيه بأن يتصل به إذا طلب صاحب الشقة أي مبلغ أو عربون لحجز الشقة، مضينا في مشوار البحث عدة أيام، حتى استقر الوجدان أن المنزل في الرياض يجب أن يكون مرحلة أولى وبعد ذلك البحث عن منزل خارجها.. لكنني أكبرت ذلك الموقف من الحاج مدبولي، أشعرني بأن الدنيا لا تخلو من أهل المواقف النبيلة!

كان الحاج مدبولي على علاقة وثيقة بالعديد من رجال المال والسياسة والثقافة، وكان يستقبل الجميع أمام مكتبته بثوبه الشعبي الفضفاض وصوته الهادئ الدقيق.. ورغم أن الرجل يقرأ ويعرف قيمة كل كتاب في مكتبته إلا أنه لم ينل شهادة دراسية وبدأ حياته سريعاً يبيع الصحف العربية والأجنبية في الجيزة وميدان طلعت حرب، عدم حصوله على شهادة دراسية وكثرة أعبائه جعلته يختار مجلسا من عدة أسماء يعرض عليه الكتب التي يقرر نشرها، وعندما اكتشف قبل عام نزول كتابين ضمن منشوراته لنوال السعداوي بهما مساس بالذات الإلهية بادر فورا إلى إعدام الكتابين، فقد كان شعاره فتح جميع النوافذ أمام القراء لكنه يغلقها عندما يتعلق الأمر بالثوابت الدينية.. رحمه الله رحمة واسعة وألهم أهله وأحبابه الصبر والسلوان إنه سميع مجيب.

فاكس 012054137




لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5137 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد