تجمع نظريات التنمية الاقتصادية على الدور المهم والمحوري الذي تضطلع به إنتاجية الفرد في دفع عجلة الاقتصاد الوطني نحو النمو والتقدم، لذا فإن أهم النصائح التي يقدمها المختصون هي تأهيل الأفراد من خلال الإنفاق على التعليم والتدريب وتوفير التقنية الحديثة القادرة على رفع إنتاجية الأيدي العاملة خصوصاً في الدول النامية التي تعاني من مشكلة الانفجار السكاني. لقد استطاعت الدول النامية حديثة التصنيع مثل الصين والهند والبرازيل تحقيق نتائج مذهلة في معدلات النمو وذلك بالنجاح في تحويل الموارد البشرية التي تُعد عائقا للتنمية إلى أحد أهم مقومات التقدم والرقي من خلال الإنفاق على برامج التدريب والترحيب بالاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تقوم بتوظيف الأيدي العاملة الوطنية وتأهيلهم للعمل على أحدث التقنيات المتاحة. لكن العديد من الدول النامية التي تعاني من براثن التخلف قد اتبعت سياسات مماثلة حيث أنفقت ميزانيات ضخمة على التعليم والتدريب وفتحت الاقتصاد الوطني للمستثمرين الأجانب دون تحقيق نتائج مرضية تتعلق بإنتاجية العامل التي قد تنعكس على معدلات النمو ومستويات التنمية الاقتصادية. طفق العديد من المختصين الوطنيين في هذه الدول النامية يقدمون الانتقادات الموضوعية لسياسات هذه الدول في محاولة لإصلاحها وتبني برامج إضافية تهدف إلى الخروج من مأزق التخلف، إلا أن تبني هذه السياسات حتى في وضعها الأمثل لن يؤدي إلى نتائج ملموسة تقود إلى التنمية والتقدم! أليس ذلك تناقض؟ ففي الوقت الذي يدعي المختصون أن تلك السياسات هي السبب الرئيسي في معدلات النمو المرتفعة في الدول النامية حديثة التصنيع نقول هنا بأنها لن تفلح في دفع الدول النامية الأخرى نحو التنمية!! لماذا؟
إن الفرق الشاسع في الإنتاجية بين الدول المتقدمة والنامية يعود إلى عدة عوامل يأتي في مقدمتها نوعية التعليم والتدريب ونظام الحوافز وأخلاقيات العمل، لكن المسألة لا تنتهي عند هذا الحد بل تتطلب شروطا أخرى تفتقر إليها العديد من الدول النامية والتي تتمثل في الشعور بالمواطنة الذي يتطلب التضحية والإبداع. يعاني العاملون في الدول النامية من فقدان نظام الحوافز والمكافآت التي قد تحض على بذل المزيد من الجهد والتفاني في العمل، ولكن حتى على الرغم من وجود هذه الأنظمة في بعض النشاطات المهمة والحيوية إلا أنها بقيت ذات تأثير محدود وضئيل ولم تثمر في زرع الشعور بالتضحية في عموم المواطنين. إن الشعور بالمواطنة هو الحافز الحقيقي الذي يقف خلف انطلاقة الإنسان نحو التفاني في جهوده وإتقان وظيفته الموكلة له على الرغم من الصعاب والنقص الشديد في التجهيزات والعتاد، في حين أن غياب هذا الشعور بالانتماء يحول الوظيفة العامة إلى وسيلة للكسب والارتزاق بغض الطرف عن ضرورة المهام المطلوب إتقانها. فالمعلم الذي يشعر بالتهميش والإقصاء ويعاني من هضم حقوقه الوظيفية لا يعي خطورة مركزه في تعليم الناشئة المهارات الأساسية ولا يبذل الجهود في الارتقاء بفكر الطلاب ويقتصر دوره على القيام بالحد الأدنى المتمثل بالتلقين دون الحث على التفكير الخلاق وتطوير مهارات البحث عن المعلومات بشكل تلقائي، ونفس المثال ينطبق على تفاني الطبيب في خدمة المرضى ورجل الأعمال ودوره في الرقي بالاقتصاد الوطني والموظف الحكومي وما يبذله من جهد في إنجاز حاجات المواطنين. بل إن التساؤل الحقيقي هو لماذا يغيب لدينا الشعور بالمبادرة وروح التبرع على الرغم من أهميتها والدور الكبير الذي يمكن أن تقدمه في مجتمعنا، ليس فقط من الناحية المادية بل يتعدى ذلك إلى التبرع بالوقت والجهد والجوانب المعنوية التي لا تُقدر بثمن.
يقول الرئيس الراحل جون كينيدي في كلمته الرائعة التي أضحت مثلاً يُضرب في الشعور بالتضحية وبذل الغالي والنفيس فداء للوطن، موجهاً خطابه للمواطن الأمريكي: (لا تسأل ما الذي يمكن أن يقدمه الوطن لك، بل أسأل نفسك ما الذي يمكن أن تقدمه لوطنك). لكن حب الوطن يجب أن يتعدى الشعارات البراقة والأهازيج الوطنية ويكون حباً حقيقيا يشعر معه الإنسان بالانتماء ويدفع المواطن نحو التفاني والإتقان بل والإبداع في القيام بالمهام الذي يعتمد الوطن عليه في إنجازها، في حين الشعور بالإقصاء والتهميش يترتب عليه إخفاق الأفراد والمجتمع وسقوط الوطن في شراك الرجعية وبراثن التخلف على الرغم من توافر مقومات النجاح والتفوق. لعل الملاحظات المتناقضة من واقع الدول المتقدمة والنامية توضح هذا الدور المتوقع للشعور الوطني، فالأستاذ الجامعي في البلدان المتقدمة يبذل الجهود ليس فقط في تعليم طلابه بل وفي الارتقاء بالمعرفة من خلال تقديم نظريات حديثة تساعد في فهم الظواهر المختلفة وتقديم أساليب وتقنيات حديثة قادرة على رفع القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني على الرغم من ضآلة الأجور المدفوعة مقارنة بالمهن الأخرى التي لا تتطلب جهودا كبيرة. المثال الآخر هو تبرع الأطباء المستمر في العالم المتقدم بوقتهم الثمين في تقديم الخدمات الطبية بشكل مجاني للمحتاجين في بلدانهم وفي الدول الفقيرة بدوافع وطنية وإنسانية يشكل مؤسسي ومنظم لا يمكن تقديره بمقاييس مادية وحوافز وظيفية التي تبقى هي الدوافع الحقيقية لنفس الأطباء في الدول النامية الذين يعانون من غياب الشعور بالانتماء والمواطنة.
إن المجتمعات البدائية لا تعاني فقط من التخلف بل تعاني كذلك من غياب روح التعاون واستشراء الأنانية الفردية البشعة وتقلص دور المجتمع، السمة الغالبة في تلك المجتمعات البسيطة هي انعدام أو اضمحلال الشعور الوطني وبالتالي تردي الاستعداد للتضحية والتفاني في خدمة المجتمع. هذا الواقع الأليم يتطلب رفع الشعور الوطني بالتأكيد على المشاركة الشعبية في القرارات المصيرية واستماع النخب السياسية لأصوات وآراء المواطنين من خلال المؤسسات السياسية التي توصل صوت المواطنين لمتخذ القرار، إن التأكيد على المشاركة السياسية يخلق لدى المواطن الشعور بالمصير الواحد الذي هو أقوى حافز نحو التفاني والإبداع.
أستاذ الاقتصاد المساعد بمعهد الدراسات الدبلوماسية
mqahtani@ids.gov.sa