ظاهرة غريبة وجدتها هذه الأيام، ففي سنوات خلت كان أجدادنا يعتمدون على الحفظ، فتجد الواحد منهم يحفظ تاريخ الأحداث والأيام والميلاد والوفاة، ويشترك في ذلك الرجال والنساء، واليوم ضعفت ملكة الحفظ بسبب عوامل عديدة منها: جناية الأجهزة والوسائل الإعلامية الحديثة.. وبالأمس كان أجدادنا يحسنون الظن في كل باحث أو كاتب أو مؤرخ فيبسطون له ما يملكون ويفتحون له نفوسهم قبل سطورهم، ويمدّون له يد العون بكل ما يملكون، أما اليوم فلا!! فقد وجدت عدداً كبيراً من الناس ما إن تسألهم عن حقيقة تاريخية أو حدث معين أو ميلاد أحد آبائهم حتى (يقفز) إلى أذهانهم سوء الظن، فتسمع سؤالهم: وماذا تريد؟ وما دخلك بذلك؟ و(عسى ما شر..!!).. ولسان حالهم يقول:
من المؤكد أن له مصلحة مادية من البحث أو أن له مقصداً لا يسرنا!!
أما إن سألت عن وثيقة (يملكونها) أو مخطوطة تحت أيديهم فإن الصعود إلى سطح القمر أقرب إليك من الاطلاع عليها أو الحصول على نسخة أو صورة منها، والسبب الوحيد هو أن سوء الظن قد (عُيّن بقرار حاسم) حارساً لتلك الوثائق والمخطوطات!!
وحديثي هنا عن الوثائق والمخطوطات التي يملكها الأفراد وليس عن تلك التي في المكتبات العامة؛ لأن الأخيرة لها نظام واضح معروف، والمكتبات تتعاون مع الباحثين تعاوناً كبيراً رائعاً.. ويمكن للباحث إذا أثبت غرضه البحثي أن يحصل على صورة لما طلبه وأن يطلع على كل ما يطلبه حسب شروط رسمية معروفة.
وهناك فريق آخر من العامة تكون مواقفهم من الوثائق والمخطوطات مواقف معاكسة تماماً للفريق الأول، ففي مقابل (تشدّد) الفريق الأول وسوء ظنهم في الباحثين ومنعهم الاطلاع على الوثائق نجد الفريق الثاني لا يقيم للوثائق والمخطوطات أي وزن، فهي ترمى في أي مكان، وسرعان ما تصلها حشرات الأرض، فتجد لها فيها مرتعاً خصباً حتى تنقرض ويحرم منها الباحثون.. وهذا الفريق لا يعرفون قيمة الصقر فيشوونه - كما يقول المثل العامي - وقد سمعت ورأيت صوراً مما فعله الفريق الثاني كما رأيت مواقف مما يفعله الفريق الأول من عامة الناس الذين لديهم وثائق وصكوك ومخطوطات تحوي كنوزاً معرفية وحقائق نحن بأمسّ الحاجة إليها. والزهد في الوثائق عند الفريق الثاني قد يسلك طرقاً متعددة، منها بيع بعض الوثائق بأبخس الأثمان أو إهداؤها لمن لا يحسن الاستفادة والإفادة منها.
وتبقى هذه المشكلة عقبة كؤوداً في وجه الباحث، وحجر عثرة في طريق المؤرخ، ونقطة سوداء في منهج البحث والتحقيق.
وليس ما كتبت هنا اعتراضاً على حقوق الملكية العلمية والفكرية وليس دعوة للتهاون بشأنها، ولكنها أمنية ودعوة ورجاء إلى كل من لديه وثيقة أو مخطوطة يمكن أن يستفيد منها باحث أو مؤرخ أن يتعاون معه ويمده بما يحتاج بعد تأكده من مدى الحاجة ومقدارها والاتفاق على بيان المصدر والإشارة إليه.
ويمكن إن صححنا منهجنا في التعامل مع المخطوطات والوثائق أن نُمدّ الباحث بما يحتاج قبل أن يطلب ذلك.. وفي هذا أسجل شكري وامتناني ودعواتي الصادقة لرجل شهم فاضل وصلتني منه رسالة كريمة نبيلة كانت مبادرة منه - حفظه الله - فقد عرفني من خلال مقال تاريخي لي فصوّر عدداً من الوثائق التي يحتفظ بها وأرسلها إليّ بالبريد ومعها مشاعر نبيلة عبّر فيها عن أمله بأن أستفيد مما أرسله.. وقد تم ذلك فقد نفعتني نفعاً كبيراً.
ما زال في الناس خير كثير، ولكن الكرام كنوز مدفونة تحتاج من يبحث عنها وقد يجد عناء قبل أن يصل إليها.
عبد العزيز بن صالح العسكر - ص ب 190 الدلم 11992