ميخائل غورباتشوف اسمٌ لا يمكن أن ينساه كلُّ سوفيتي، أو لنقُل كلّ روسي، لأنّ الجنسية السوفياتية قضى عليها غورباتشوف نفسه، فهذا الرجل حمل أول معول وهدم القطب الثنائي العالمي المشارك في القيادة الدولية، فالروس أغلبهم لا يحبِّذون سماع اسمه، وبعضهم يذهب إلى اتهامه بانحراف الفكر والانشقاق على الفكر الماركسي، بل يذهبون إلى أكثر من ذلك فيتهمونه بأنّه كان (مدسوساً) من الإمبرياليين الأمريكيين، ليحقق من خلال اختراقهم عبر وصوله إلى القيادة العليا للحزب الشيوعي، ما عجزوا عنه منذ انشقاق تروتسكي على قيادة الحزب الشيوعي، ومحاولة (الإمبرياليين) - كما يسميهم الشيوعيون - الاستفادة من هذا الانشقاق، وتأمين الحماية لهذا المنشق في (غابة الإمبريالية آنذاك) أمريكا اللاتينية، إلاّ أنّ ال K.G.B وصلوا إليه وذبحوه.
المهم أنّ الروس يجزمون أنّ الأمريكيين بالذات، نجحوا في إيصال ميخائيل غورباتشوف إلى اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وظلّوا يتابعونه، وعند وصوله إلى منصب العضو المرشّح للأمين العام للحزب الشيوعي، لم تخف المحطات التلفزيونية الأمريكية الاحتفاء بالحدث، وأذكر أنني عجبت من اهتمام الأمريكيين بهذا الغورباتشوف، فقد كنت في مناسبة تواجد فيها صحفيون أمريكيون، ووجدتهم في تلك الأمسية لا حديث لهم إلاّ عن وصول غورباتشوف إلى عضو مرشّح للأمانة العامة للحزب الشيوعي الروسي!! وعندما سألت عن هذا الاهتمام، أجابني أحدهم بقوله: (هذا سيكون الزعيم القادم للاتحاد السوفيتي، هذا سيكون شريكنا في حكم العالم)، وفعلاً صدق قول ذلك الصحفي الأمريكي..!
بعد وصوله إلى الأمانة العامة، أي زعامة الحزب الشيوعي، أحضر معه إلى الكرملين سياسية (البروسترويكا)، ومعناها بالعربية (إعادة البناء)، ولأنّ إعادة البناء هذه صيغت بمواصفات رأسمالية، جمعت بين ضرورة فتح الأسواق وتحرير الملكية ورفع يد الحزب والدولة عن الاقتصاد وحرية الرأي، فقد وجدت الإشادة والترحيب من أمريكا والغرب. إلاّ أنّ هذه (الإصلاحات) - إنْ صحّت تسميتها بذلك - قد جلبت كثيراً من المغامرين السياسيين والانتهازيين الاقتصاديين والعملاء وكلاء الجهات الأجنبية، بعضهم تسلّق السلطة، كما فعل بوريس يلتسن، وبعضهم انتهازيون اقتصاديون سرقوا أموال الشعب واستولوا على الشركات المنتجة، وجيّر العملاء سياسة الدولة لخدمة دول أجنبية، كانت ولوقت قريب تُعَد عدوّة للاتحاد السوفيتي ولروسيا بالذات.
كلنا نعرف ماذا حلّ بالاتحاد السوفياتي وبروسيا، بعد نجاح المغامرين السياسيين والانتهازيين الاقتصاديين في الانحدار بهذه الدولة العظيمة إلى مستويات متدنية، حيث وصلت في عهد يلتسن إلى دون مستوى الدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن، وليس دولة مشاركة في القطبية الدولية، كما كانت في عهد الاتحاد السوفياتي، ومثلما يعمل بوتين ومدفيدف الآن على إعادة هذا المستوى الدولي لروسيا.
غورباتشوف وعلى غرار اعترافات الندم التي يقدم عليها الرؤساء والزعماء السياسيون عندما يغادرون السلطة، مثلما يفعل الآن جورج بوش الابن وأولمرت، على غرار هؤلاء يعترف غورباتشوف بأنّ الاتحاد السوفيتي كان سيبقى ويظل مشاركاً لأمريكا في احتلال القطبية الدولية، لو أنه - أي غورباتشوف - لم يغادر موسكو، لينعم بالراحة في أحد المنتجعات على البحر الأسود في أغسطس 1991م، ويترك المسرح لبوريس يلتسن ليسرق السلطة، وأنه كان مخطئاً أيضاً لأنه لم يرحِّل يلتسن إلى إحدى جمهوريات الموز ليعمل هناك سفيراً، عندما طالب أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي آنذاك، والذين طالبوا بطرد يلتسن من الحزب .. وأخيراً لو أنه خصص مبلغ 10-15 مليار دولار لتأمين السلع الاستهلاكية التي احتاجها المواطنون في عام 1990..!!
اعترافات متأخرة، إلاّ أنها دروس يجب أن تُقرأ.
jaser@al-jazirah.com.sa