Al Jazirah NewsPaper Saturday  13/12/2008 G Issue 13225
السبت 15 ذو الحجة 1429   العدد  13225

التسامح.. هل نتصوَّر الصباح بلا إشراق؟
بدر محمد عيد الحسين

 

التسامح درة السجايا الحميدة، وشعاع الخير الذي ينير جوانب القلوب العاتبة فتعفوا وتصفح، وبسمة الرضا التي ترسم ملامح النبل على الوجوه الشاحبة فتشرق.

التسامح مادة إنسانية معجونة بأزكى الطيوب. ما أشبهه بمُزنة سخية تعقب عاصفة فتهمي بغيثها لتغسل وجه الأفق المغبر فيصفو.

ما أشبهه ببشارةِ مباركٍ تلامسُ مسامع يائسٍ قانط، فتنشر الأمل في ثنايا مواجعه، فيزهر الفرح في محياه.

في لحظة من لحظات الصفاء والمصالحة مع الجبلَّة يُحس المرء بدفء التسامح الذي هو عَلَمٌ مشرق من معالم النفوس الرضية.

المتسامح كالشجرة التي لا تبخل بالظل حتى على من ينوي تكسير أغصانها، وقطف ثمارها، والنيل من قامتها الشماء التي تزين وجه المعمورة.

هل تتصورون الحياة من غير تسامح؟

هل تتخيلون الصباح من غير إشراق، والصحراء من غير نخل، والعيون من غير أهداب، والأمومة من غير حنان؟

أنا مثلكم لا أتصور الحياة من غير تسامح؛ لأنها لو خلت من التسامح لأصبحت أشد ضراوة من حياة الغاب.

المتسامح لا يحقد على إنسان، ولا يبغضه، أو ينال من شخصه، أو يجرح هيئته، ولكنه ينبذ ما نبا من فعاله، وشذ من سلوكه، متعهداً إياه بالنصح، مقترباً منه؛ لأن القلوب إذا ما تباعدت تنافرت، ومن ثم خسر بعضها محبة بعض.

***

يقول بوبليليوس سيروس: (سامح عدواً واحداً تكسب أصدقاء كثيرين)(1).

التسامح.. تلكم القوة الخفية والمنسية في قيعان نفوسنا، التي إذا ما أبرزت عمت الدنيا المحبة والسلام. ولرب لحظة من لحظات التسامح أوقفت حرباً، وحقنت دماً، وجلبت خيراً عميماً، وولدت حباً عظيماً.

وعفا الله عن الشاعر الكفيف بشار بن بُرد الذي قال:

إذا كنت في كل الأمور معاتباً

صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى

ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

والشاعر الذي قال:

يا ما أحيلى بسمة من صاحبٍ

لو كان باطنه شريك الظاهر

الأطفال أكثر تسامحاً لأن نفوسهم بريئة وقلوبهم نقية، وأرواحهم عذبة رضية، ففي قمة ثورتهم وانهمار دموعهم يرتمون بأحضان من زجرهم وحال بينهم وبين ما يحبون، وسرعان ما يبتسمون لقطعة الحلوى.

والمؤمنون كالأطفال في نقاء نفوسهم وصفاء جبلتهم؛ فهم متسامحون لأنهم فهموا قيمة التسامح العلوي، وقدروه حق قدره.

قال تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } (53) سورة الزمر.

التسامح رحيقٌ أفضت به الحكمة إلى قلب الإنسان العامر بحب الإنسان وبارئه.

فترفع عن الشعور بالانتقام أو الحقد لئلا ينال هذا الشعور من بلوره النقي، فيتكدر، أو يخالط نسائم روحه العاطرة شيء من دخان الحقد فيتعكّر..

لذلك تراه يواجه سهام اللمز والمكر البشرية بابتسام ورضا وترفع.

المتسامح وافر الفضل، عالي الهمة، كثير الصفح، ينظر إلى القفار بعين محبة فيرى فيها الواحات الخُضر والغدران الجارية والوديان التي تحتضن الماء، وينظر إلى الليل الحالك فيرى فيه ألق الكواكب وحسن القمر. يقول غاندي: (نحن لا نعادي الأشخاص بل أخطاءهم)(2).

ومن صور التسامح الجميلة تلك التي تتمثل في البيع والشراء والأخذ والعطاء فالبائع المتسامح يحبه الله والناس فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان رجل يداين الناس، وكان يقول لفتاه: إذا أتيت مُعسراً فتجاوز عنه، لعل الله أن يتجاوز عنا، فلقي الله فتجاوز عنه). متفق عليه(3).

التسامح بلسم للروح وراحة للجسم؛ لأن الحقد والغضب يوقعان النفس في الأمراض الفاتكة والعلل المفسدة.

ثم أليس الحاقدون معرضين للزلل بحكم بشريتهم؟

فإذا لم يصفحوا فكيف سيصفح الناس عن أغلاطهم ويغضوا الطرف عن هفواتهم؟!

ورحم الله الشيخ مصطفى الغلاييني إذ يقول:

سامح صديقك إن زلت به قدم

فليس يسلم إنسان من الزلل

ورحم الله الشافعي إذ يقول:

لما عفوت ولم أحقد على أحد

أرحت نفسي من هم العداوات

كُن كالشمس التي تشرق في كل يوم متألقة متزينة تنشر سناها الفضي في الأفق الممتد كما لو كانت تشرق أول مرة على الكون، فتبادر الرُّبا بالدفء، وتلامس شعفات الجبال لتزرع الأمل والتفاؤل.

وكن كيقظة الفجر التي تداعب العيون الوسنى، وتبدد الأحلام التي أرخت أجنحتها فوق الأذهان الحالمة لتعلن بدء يوم جديد.

***

ولو تأمل الناس قليلاً في حلم الخالق عز وجل على المخلوقين وصفحه عن زلاتهم لرفعوا التسامح شعارا، ولاتخذوه مبدأً.

فأي تسامح أعظم من تسامح الخالق عز وجل عندما يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }(53) سورة الزمر.

وما أحسن المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال محبباً العفو والصفح، ومرغباً في التسامح فيما رواه أبو هريرة: (ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحدٌ لله إلا رفعه الله)(5).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلتُ: يا رسول الله، أرأيت إن علمتُ أي ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقولُ فيها؟ قال: (قولي: اللهم إنك عفوٌ كريم تحبُ العفو فاعفُ عني) (6).

اقرؤوا التسامح في عيون الأمهات، وفي قلوب الآباء، وفي مودة الزوجات، وفي وفاء الأصدقاء؛ إذ إنه يُخرجهم من زوايا بشريتهم إلى آفاق ملائكيتهم؛ فيملؤون الدنيا روعة، وينشرون المحبة بين الناس انتشار الأرَج في نسيم الصبا.

(1) موسوعة (روائع الحكمة والأقوال الخالدة)، د. روحي العلبكي.

(2) موسوعة (روائع الحكمة).

(3) مسلم (2588).

(4) (النور: 22)

(5) البخاري 6/ح 3480

(6) الترمذي (3515).

badrhussain@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد