اعتاد مثقفو ودعاة الدين إرجاع تردي الواقع المحلي والعربي والإسلامي إلى حالة التخلف والجهل الاجتماعي، لكن الجديد في الأمر أن مسؤوليه أيضاً تبنوا هذا التشخيص لحال الأمة، وصارت هذه الجملة متلازمة يتم ترديدها في كل احتفال رسمي أو مقالة..
......ثقافية أو خطبة دينية، وهو ما يجعل من معرفة مكامن الحلول لهذه المعضلة المزمنة أكثر صعوبة منذ قبل، فالكل صار يرمي بمسؤولية الفشل على تخلف وجهل المجتمع أي على الناس الذين هم نتاج مراحل متراكمة من الحراك الديني والثقافي والسياسي سواء كان ذلك تقاليد وأعراف اجتماعية أو أصول دينية أو نتيجة لمرحلة سياسية..
لكن الإشكالية تكمن في تحديد ما يقصده هؤلاء بمختلف اتجاهاتهم بالتخلف والجهل، وهل ثمة اتفاق ما بين هذه الاتجاهات في تشخيص أعراض المجتمع المصاب بداء التخلف والجهل، فحسب فهمي أرى أن كلاً يدعي وصل ليلى، فالإسلامي على سبيل المثال يرى أن المجتمع يعاني من التخلف لابتعاه عن تطبيق الإسلام الراشد، وأن المجتمع بسبب ابتعاده عن هذا النهج القويم يعيش في جاهلية قريبة من جاهلية العرب ما قبل الإسلام، وأن لا مجال للخروج منها إلا بالعودة لما كان عليه المؤمنون في القرون الأولى، ومن أعراض هذه الجاهلية تبرج النساء وعقوق الوالدين وانتشار الربا والفاحشة والمجاهرة بهما..
بينما يرى بعض المثقفين أن التخلف نتيجة لبنية التسلط الديني واحتكاره لعقول الناس، ثم أصابتهم بداء الشلل الذهني نتيجة للاحتلال التام لمرجعية الفتاوي لعقولهم، فالناس يفكرون ويتصرفون فقط من خلال الفتوى، وأنهم نتيجة لخطاب التهديد والوعيد الشديد من عقاب الآخرة جعلوا من الفتوى ستاراً واقياً بينهم وبين عذاب النار، أي أنهم سلموا أمور دنياهم وآخرتهم بالكامل للمفتي أو الواعظ، وهذا يفسر ارتباطهم التام بالفتوى التي يعتقدون أنها تمثل الحكم الإلهي على أرضه أنهم بانقيادهم سينجون بإذن الله سبحانه وتعالى من وعيده يوم القيامة، ويعتبر هذا الانقياد التام أمر طبيعي في مجتمع متدين تنتشر فيه الأمية إلى وقت قريب..
لكن انحسار الأمية جاء في العقود الأخيرة بتغيرات ملموسة في ذهنية المجتمع، وأدى تطور المجتمع إلى تطور أساليب الفتاوي وعبارتها وتسلطها على الأمور الدنيوية لكنها بالتأكيد أقل تأثيراً من قبل...
على سبيل المثال اختفت مصادر وكتب فتاوي ما قبل فترة السبعينيات الميلادية، وتلاشت تأثيراتها الاجتماعية حيث لم تعد معانيها ومقاصدها تواكب المرحلة الحالية، بل إن مصادرتها من الأسواق ثم عدم السماح بنشرها وبيعها في المكتبات الخاصة دليل على انتهاء دورها وتأثيرها، وعلى أنها قد تمثل أو تعطي انطباعا على وجود بنية للتخلف والتجهيل في تلك المرحلة..
ويُعتقد أن قراراً رسميا أوقف انتشار كتب تلك الفتاوي، وربما يقول البعض أن الفتاوي بشكل عام تحكمها الجغرافيا والفترة الزمنية، وأنها فقدت جدواها بمرور الزمن، لكن هذا التبرير غير مقنع، فلو كان الأمر كذلك لتم منع كتب ابن تيمية وفتاويه في العصر الحديث..
أحد أوجه أزمتنا الحالية حسب وجهة نظري هي مع بعض المثقفين الذين لا يتوقفون عن ترديد طرح ثقافي يسخر من مرجعية الثقافة العربية والدين الإسلامي، ويطالب بالقطيعة معهما، وتصل نبرة هجومهم أحياناً إلى حد تقزيم العرب وتاريخهم العربي الإسلامي وما قدموه من منجزات معرفية للحضارة الإنسانية، وهو طرح في غاية الخطورة، ويؤثر سلبياً على النشء الجديد والمنبهر بالمد الحضاري الغربي نتيجة لخلو الساحة من منهج توفيقي يعيد الاعتبار للذات العربية الإسلامية، وفي نفس الوقت يتواصل من خلالها مع المد الحضاري الإنساني..
المفارقة أن مثقفي الشمال والمغرب العربي يقدمون طرحاً توفيقياً يجمع ما بين عراقة العروبة وسمو الإسلام وما بين الحضارة الإنسانية، وذلك من أجل المحافظة على الهوية، وعلى احترام الذات الذي بدونه لا يمكن لأي أمة أن تنهض من تخلفها وجهالتها المزمنة..
ربما يكون السبب في أن أوطان الشمال والمغرب العربي كانت أرضاً لأوج حضارة العرب والإسلام لقرون عديدة، ومن خلالها تأسست حلقة الوصل ما بين حضارة المسلمين وحضارة الغرب، بينما كنّا لوقت قريب نعيش خارج هذه الدائرة تماماً،..
وقد يفسر هذا البعد الجغرافي والحضاري سبب الموقف السلبي من بعض المثقفين المحليين من أطروحات مثقفي الشمال والمغرب العربي ومن مرجعية العروبة وحضارة الإسلام...
الجديد في الأمر أن الخطاب الرسمي أصبح أيضا يطرح أن الجهل والتخلف هم أحد أسباب أزمتنا المعاصرة، وهي بالتأكيد نقلة إيجابية في هذا الخطاب الذي كان يتصف من قبل بالعموميات وبالعبارات المكررة، وستكون لهذه النقلة الإيجابية في الطرح الرسمي تجاوب في المجتمع أكثر منه للخطابين الثقافي المتشنج والديني المتطرف، وربما تحمل هذه المبادرة الرسمية في ثنايها الخطوة الأهم في حال تفعيله من مجرد انطباعات رسمية إلى حراك اجتماعي تقوده القيادة بدلاً من فوضى عراك ثقافي إسلامي لا تتسم بأدنى أبجديات الطرح البناء واحترام الذات.