أعود اليوم لأواصل الحفر على مشراق النساء بتقديم وجه مضيء آخر من قبس محيا النساء بالمجتمع السعودي إلا أنني قبل أن أسترسل في ملاحقة الأطياف المتعددة لوجه ضيفة مقال اليوم الفنانة عواطف القنيبط أريد أن أشير- وإن باقتضاب- إلى ذلك السيل السخي الذي تلقيته عبر رسائل الجوال وبريدي الإلكتروني وبريد
الجزيرة سواء في الشد على يدي لفكرة سلسلة الحفر على مشراق النساء أو في .مشاركتي الاحتفاء بوجه دينا الجودي ضيفة مشراق النساء الأسبوع ما قبل الماضي...
عواطف القنيبط سيرة هوى نجد الكتوم:
لا أحتاج في الكتابة عنها لديباجة أو مقدمات لأن سيرتها بحد ذاتها سفر للديباج والعوسج, المخمل والعرفج محفورا بكل اللغات على جدارية الصمت التي تشكلت عليها سيرة المرأة في مرحلة التحولات التي شهدها مجتمعنا من مطلع الستينيات حين افتتحت أول مدرسة لتعليم البنات. فهي بنت ممشوقة من بنات هذا الوطن الطالعات من مموايل السواني المكتوب بحنين الصحراء للماء. وكل ما فعلته عواطف أنها في حياة عادية لم تحفل بادعاء أي من البطولات التي يدعيها أشباه المثقفات استطاعت أن تجترح مسيرة يومية تخالف تواريخ الظل والسكون التي طالما حشرت في عتمتها سيرة سيدات البيد.
وسواء خرجت عواطف من أطلال بيوت الطين التي كانت تلف أحياء الرياض من المرقب إلى المربع ومن الوشم إلى الملز أو أنها أنسلت من بين أغصان الأثل وعسيب النخل وأطلت على آبار الذهب التي ماجت فجأة في شرق البلاد فإن عواطف القنيبط حين تطل تسبقها رائحة السدر والحناء فتستهدي بقمرتها القوافل على طريق الواحات ويستدل سهيل على منازل الزهراء ويعرف مطر نجد الشحيح طريقه إلى جوف الصمان ليختبئ بعيدا بعيدا تحت رمال النفوذ والدهناء. ومن يدري لعل عنترة العبسي حين كتب معلقته كان قد لمحها فاشتاق إلى الحرية أو لعل امرأ القيس مر بحلمها حين قرر أن هناك في الطريق إلى الموت ما يستحق الحياة ليوم آخر.أما النابغة الذبياني فله أعذار الشعراء بما أنه خرج من نفس مفاصل هضبة نجد التي هل منها صمى القشيري ليفشي سر الهوى المكتوب على جبين من يولد على مثل هذه الأرض.
أطياف عواطف:
لم تولد عواطف القنيبط وفي فمها ملعقة من ذهب أو خشب كما يجري الحديث عادة عن سيرة النساء الناجحات، بل إنه يخيل لي أنها ولدت كمعظم نساء مجتمعنا ومجتمعات أخرى لتجد أن عليها أن تغرف بأصابعها العشرة من (المر والصبر) وسواهما من أعشاب الاستشفاء لتستطيع أن تقيم أودها ليس من شظف الجوع المعرفي وحسب لكن أيضا لتستقوي وتصلب عودها في وجه تلك الوقائع والعادات والتقاليد الاجتماعية الصارمة التي تتربص عادة بطموح الحالمات من الفتيات. كان على الطفلة منذ نعومة أظافرها وقبل أن تصل سن المدرسة أن تتعلم معاني التواد والتراحم في أسرة كبيرة تتعدد فيها الأمهات لتحويل ملح العيش إلى شحنة حب زلال.
تزوجت الفتاة قبل أن تفك ضفائرها المدرسية ومع أنها ربما كانت من أولئك القلائل المحظوظات في زواجها بشاب يحمل مثلها قلق التوق إلى مستقبل أجمل من الواقع حيث كان على ما أتوقع من دفعات شباب الفوج الثالث من مبتعثي الدراسة بأمريكا إلا أن صغر سنها وانشغالها بحمل وولادة وتربية ثلاث حوريات صغيرات في الغربة ربما لم يتح لها مواصلة الدراسة وقتها إلا أن عواطف وإن أجلت الحلم فإنها لم تتخل عنه أو تنساه إلى أن حصلت على درجة الماجستير قبل عامين هي وبناتها في نفس الوقت بدعم من ذلك الرجل الذي وقف معها على طول الخط فحافظا معا على جذوة الحلم من الانطفاء إلى أن تحقق بعد ما يزيد على عشرين عاما.
عرفت عواطف القنيبط قبل عشر سنوات أو قبل عشرين عاما لا أعلم فربما عرفتها قبل أن أعرف معنى الصداقة في علاقة الزمالة والعمل والتكاتف والتعاضد والتسارر والاختلاف والائتلاف والأخوة بين النساء إلا أن من يعرف عواطف مثل ما عرفتها في السراء والضراء وفي الشدائد والرخاء وفي القرب والبعد ليس معي وحسب بل مع جميع من عرفها ربما بلا استثناء لا بد أن يقتنع بعمق وثراء الأخوة في الصداقة بين النساء.
تتنافس أمامي أطيافها فلا أدري عن أي من عواطف القنيبط أكتب. هل أكتب عن عواطف تلك الفراشة المشعة بتسعة وتسعين من ألوان الربيع وهي تصاحب الكبيرات والشابات والأطفال على مدار العام تتعهدهن بالزيارات وتفتح بيتها كل عيد لاستضافة المقيمين في المؤسسات الخاصة بالرعاية الاجتماعية للأيتام والمسنات وسواها. فتحني تلك الأرواح المنسية بالفرح بنفس الحبور والأريحية التي تنقش فيها الحناء على أكف أولئك النساء وترسم بها القلوب على خدود الأطفال.
هل أكتب عن عواطف القنيبط بشالها الشالكي وثوبها الزري وهي تقيم أمسيات رمضانية تراثية كل عام لأفراد من الجاليات الأجنبية فتجمع القلوب وتعدد الثقافات على التمر السكري والقهوة المرة وكنوز الجدات من الحكايات. هل أكتب عن عواطف تلك المرأة المشمسة الممطرة التي تقيم بجهد تطوعي مشترك بينها وبين عدد من صديقاتها وأخواتها وصغيراتها وصغيرات صديقاتها من المتطوعات, مخيمات صيفية للأطفال والشابات الصغيرات لتكشط صدأ صيف الرياض الضجر بزخات منعشة من أنشطة الرياضة والرسم والأدب والعلوم بعد أن تسكبها في كؤوس من مرح بريء. هل أكتب عن عواطف تلك التي عملت بمثابرة وحب في تنظيم لقاء الشهر الأحدي بدقة الساعة في جدولة البحوث ومواضيعها وتحديد باحثيها ومواقع إلقائها ومواعيد اللقاء والتذكير بها لأكثر من خمس سنوات. وهل يمكنني أن أكتب عن عواطف دون أن تقفز أمام عيوني إشراقة تلك الأم التي تسامت بحنانها وحزمها على حزنها العميق وسورة خوفها فحلقت شعرها تضامنا مع الظرف الصحي الذي مرت به فلذة كبدها فأنحني إلى يوم الدين حمدا لرب العالمين أن خرجت من ذلك الامتحان هي والبطلة الفتية مثال يحتذى للنساء والرجال من الكبار والصغار على الصبر والعزيمة والتعاضد الأسري وعلى معجزة الإيمان والتمسك بحبال الرحمن في وجه التحديات الحياتية.لن أستطيع مع الأسف أن أقف مع كل عواطف من عواطف القنيبط لأوفيها حق الكتابة بما يليق بميادها ولينها بعمقها وبساطتها - عواطف الموظفة النزيهة وعواطف ربة البيت التي ليس أطيب من جريشها وقرصانها وحنينيها ومحلاها ومراصيعها إلا ما تطبخه موضي أمها, وعواطف الأم مرة أخرى وأخرى التي شاركتني أمومة أطفالي إلا أنني مضطرة سأختصر الحديث عن تلك المرأة المتنوعة في فرادة وتميز أن أقف عند عواطف القنيبط الفنانة.
(إيقاعات خزفية)
يكاد يعد على أصابع اليد الواحدة لدينا عدد الرجال والنساء من الفنانين السعوديين الذين دخلوا فضاء الفن التشكيلي من بوابة التشكيل الخزفي وأعتبر كمتذوقة ليس إلا من خلال الأعمال القليلة التي أتيح لي الاطلاع عليها ومن متابعاتي لمسيرتها الإبداعية أن عواطف القنيبط قد غامرت ونجحت بجدارة أن تنفذ إلى فضاء التشكيل الخزفي وأن تفتح في بلادنا نافذة جديدة على هوائه الغض لتكون رائدة من رواد هذا الفن في مرحلة ما بعد الحداثة. لا أستشهد على ذلك بما لاقته معارضها الدولية من نجاحات ولكن أيضا بما لاقاه معرضها بالرياض لهذا الشهر من إقبال من قبل عدد واسع من المهتمين، كما أُشهد على ريادة هذه التجربة الإبداعية وهي في مطلعها ما لايزال يكرج بين أصابعي من حبات التركواز الخزفي لمجسد مسبحة يزيد قطرها في استدارات بديعة على ثلاثة أمتار ويشهد على قولي أيضا ما لا لم يتوقف عن الرفيف في وجداني من رجع آيات قرآنية كتبتها خزفيا. هذا بالإضافة لتلك التعبيرات الملتاعة المندلعة من وجوه متموجة بالألم والأمل. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.