كنت مطلعاً الأسبوع الماضي في إحدى الضواحي القريبة لجاكرتا (العاصمة الإندونيسية المعروفة)، ولفت انتباهي وأنا أسير في الشارع الرئيس المؤدي للطريق السريع الرابط بين العاصمة والمدن والقرى المحيطة بها، لفت انتباهي وجود مجموعة من السيارات تسير خلف بعضها البعض وبشكل منتظم، تعلو منها الأصوات وتنبعث من داخلها الأهازيج المختلطة بالضحكات والكلمات التي لا
أعرفها ولا علم لي بمدلولها، ولكنها - في ظني - معبّرة عن لحظة فرح وسرور.. سألت السائق معي عن الحكاية، - وهو الحضرمي الأصل الإندونيسي الميلاد والنشأة - قال وبلغة عربية ذات لكنة أعجمية، وبعد تفكير قصير هذه (زفة)، وبعد أخذ ورد وحوار ونقاش فهمت أن هناك أحد أهالي هذه القرية سيذهب إلى العاصمة جاكرتا ليلتحق بقافلة الحجيج هذا العام، وهؤلاء هم أهل القرية خرجوا يزفونه ويودعونه.. كان المشهد رائعاً ومثيراً بحق، كم كنت أتمنى لو أنني أستطيع أن أرسم هذه اللوحة المعبّرة والناطقة عمّا تفيض به مكنونات هؤلاء المسلمين الذين تهوي أفئدتهم للبيت العتيق، تطوف به مشاعرهم وتسعى حوله أحاسيسهم، فهم حسب ما سمعت ورأيت في هذه الرحلة السريعة أصحاب عاطفة دينية جيّاشة، ما قطع الحاج وادياً ولا سلك شعباً ولا صعد مرتفعاً ولا هلَّل ولا كبَّر ولا استغفر إلا وهم معه، حبسهم العذر ومنعتهم قلة الحيلة وضعف ما في اليد، أمنيتهم الوصول إلى البيت الحرام وتطلّعهم حجة ولو في آخر العمر ولن يبلغوه إلا بشق الأنفس.. تذكّرت حينها عندما كنت في سن السادسة من عمري كيف كنا نودع الحجيج ونحن صغار، صدّقوني ما زالت صورتهم حاضرة في الذهن وهم يركبون (اللوري) و(البلاكاش)، صورتهم وهم يستعدون للسفر الميمون، وهم يجهزون متطلبات ومستلزمات الرحلة المباركة إلى بيت الله الحرام، وهم يضعون العلم الأخضر في مقدمة السيارة، وهم... كنا نسير معهم على أقدامنا الحافية حتى تخرج السيارات المعدودة والمعروفة من أطراف القرية وخلفها الغبار المتطاير في الأفق الواسع والعلم يخفق وقلوبنا الصغيرة تخفق معه ونحن لا نعرف من الحكاية إلا البداية والنهاية. وعن الترقّب والانتظار بعد انتهاء أيام الحج (حدّث ولا حرج)، مشاعر ووعود، والكل يترقّب وينتظر، نخرج إلى طريق الحاج في الوقت الذي نتوقّع فيه الوصول، نطوف بالبيوت نطلب (حقاق الحجيج) ويا فرحة من يأتي حاجه قبل غيره، ولا أنسى عبارة كبار القرية وهم جالسون يتبادلون أطراف الحديث.. (يذكرون حجيج الفلان وصلوا) ويسأل أحدهم الآخر: ما ذكروا أحد من الحجيج؟ وتأتي الإجابة مخيبة وقاطعة، لا، ومن ثم يأتي التعقيب المطمئن للنفس: (يجيبهم الله، حجيج الفلان متعودين كل سنة هم أول من يجيء، يوكلون ويطلعون ولا يمرون المدينة المنورة). وهكذا في كل لقاء.
واليوم ربما لا يغادر أحدنا منزله في أي مكان كان من بلادنا الحبيبة (المملكة العربية السعودية) إلا صباح اليوم التاسع ويعود مساء يوم الثالث عشر وهناك من يستقبله في المطار ويودعه حين الرحيل، والجوال معه طوال الأيام الخمسة، يصل ويواصل، يتحدث ويهاتف في كل وقت، أما عن يوم عرفه فهو ينقل بالتفصيل وعلى الهواء مباشرة كل ما تقع عليه عينه، نعمة عظيمة تستحق التأمل فيها والوقوف عندها ومن ثم شكر الله عزَّ وجلَّ عليها، نعمة لا يعرفها إلا من هو ليس في هذه البلاد أو مرت عليه تجربة الحج في سالف الأيام، فلله الحمد والمنة!!، ليست هذه الزفة الوحيدة التي ما زالت عالقة في الذهن، بل إنني لا أنسى زفة العريس والسفارة أيام (التريكات) والمرور على قهاوي أهل الديرة القريبين في بيوتهم من بيت أهل العروس، وسمعت ولم أشاهد زفة الحافظ لكتاب الله وكانت في الجيل الذين سبقنا، وقبل أكثر من عشرين عاماً كنت مع عدد من الأصدقاء نتنقل بين قرى وضواحي تركيا، توقفنا عند مسجد كبير نسيت اسمه واسم صاحب الضريح في ذلك المسجد، وحين تواجدنا هناك جاءت قافلة بسيارات مختلفة علمت فيما بعد أنها مستأجرة خصيصاً لهذه المناسبة ولتنقل أهالي القرية إلى هذا المسجد، وبنفس الصورة الإندونيسية السابقة أصوات وأهازيج، بل طبول وتغريد، كان في إحدى السيارات الصغيرة المليئة بالورود والمحاطة بأوراق الزينة ولد صغير لا يتجاوز عمره سن الثالثة عشرة وعليه لباس جميل ذو مواصفات خاصة، وبجواره امرأة (أمه) وعن يمينه رجل (أبوه)، سألنا ما الحكاية، قالوا هذا طفل يزف إلى هذا المسجد من الضواحي والقرى المجاورة ويدخل بصحبة شيخ الطريقة الصوفية وإمام المسجد ومعه والده ووالدته إلى مكان الوضوء أولاً فيتوضأ أول مرة في حياته أمام والديه وتحت إشراف الشيخ ثم يدخل معهم إلى المسجد والناس في الخارج ينتظرون، ويصلي ركعتين لله مقتدياً بالشيخ وعن يمينه والده وعن يساره والدته، وفي طريق الخروج يمر الأربعة الضريح ليبارك صاحب القبر حياة هذا الطفل الواعد، ثم يتوجه به إلى غرفة خلف ساحة المسجد ليطهر، إذ لا يتم التطهير لأبناء المسلمين في هذه القرى إلا في مثل هذه السن غالباً وبهذه الطريقة!! وبعد أن خرج الطفل وقد طهر وارتفع صوته بالبكاء والعويل، علت الزغاريد وسط ساحة المسجد وباركنا - نحن السعوديين الذين كنا حينها نشاهد هذه الفصول من زفة التطهير - هذه المناسبة السعيدة، وتم التصوير معنا تيامناً وتخليداً، ودعينا إلى وليمة التطهير مساء ذلك اليوم المبارك، ولكننا اعتذرنا لسفرنا إلى العاصمة أنقرة. أما الزفة الأخيرة فقد كانت في الأردن قبل أربع سنوات وهي (زفة عروسين) الزفة المعتادة والمعروفة ولكن كان خلف السيارة التي تقل العروسين والقادمة من ضاحية من ضواحي (عمان) شباب أربعة يحمل اثنان منهم السلاح وقد أخرجوا رؤوسهم من النوافذ الخلفية وهم يرفعون رشاشات الكلاشنكوف، ويطلقون الرصاص في أفق السماء مع صوت السيارات وأهازيج الناس، ومع أن استخدام السلاح وإطلاق الرصاص في الهواء عادة معروفة عند بعض القبائل وسكان بادية الشام إلا أن كونها في الطرق العامة وفي مثل هذا الجمع من الناس أمر مستغرب وخطير، أما نحن اليوم فزفتنا لا وجود لها إلا ما ندر وبصورة فوضوية ومزعجة!! تقبل الله من الحجيج حجهم وجعل عيدنا سعيداً وأعادهم إلى أهلهم سالمين غانمين وكل عام والجميع بخير.. آمين.