Al Jazirah NewsPaper Monday  08/12/2008 G Issue 13220
الأثنين 10 ذو الحجة 1429   العدد  13220

كان للعيد فرحته وعاداته
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

أكتب هذه السطور في صباح يوم السبت.. يوم التروية لحجاج بيت الله الحرام.. يوم خروجهم إلى منى ويوم الغد (أمس الأحد) - إن شاء الله - سيكون وقوفهم على صعيد عرفة مبتهلين إلى ربهم الكريم أن يمن عليهم بقبول حجهم، ويمطر عليهم شآبيب رحمته

ورضوانه. وهو يوم يصومه كثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تقرباً إليه، ورجاء أن يكفر عنهم ما تقدم من خطاياهم وسيئاتهم.

واليوم الاثنين يمضي الحجاج من مزدلفة إلى منى لرمي الجمرات وقضاء ما بقي من مناسكهم وهو يوم عيد الأضحى، الذي يحتفل بقدومه المسلمون أينما كانوا متقربين إلى الله بما أمرهم به وما أرشدهم إليه نبيه - صلى الله عليه وسلم - من وجوه التقرب، ومبتهجين بما أنعم به عليهم من صنوف بره وإحسانه. تقبل الله من حجاج بيته حجهم، وأعادهم إلى أوطانهم سالمين من كل مكروه غانمين الأجر والثواب.

وأعاد الله على أمتنا عيدها وقد انقشع عن سمائها ما تلبد من غيوم البأساء والضراء والذل والمهانة.

أما بعد:

ففي كتاب الله الكريم ما يبعث الأمل في نفس المؤمن بأن يزول عنه ما يلاقيه ويشهده من مصائب فقد أكد - سبحانه - أن مع العسر يسرا، وقال عز من قائل: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}. وكم أود - وأنا ممن يطربه شعر أبي ماضي - أن يسبح قلبي في فضاء خياله البديع، فيطيع أمره عندما خط قلمه:

قال: السماء كئيبة وتجهما

قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما

قال: الليالي جرعتني علقما

قلت: ابتسم ولإن جرعت العلقما

فإن استعصى الفؤاد عن الطاعة فلا أقل من الهروب مما هو حال بأمتنا، وبخاصة أهلنا في غزة، هذه الأيام من مصائب، إلى أيام الطفولة، وذلك لاستنشاق عبير براءتها. وهل هناك أحلى وأطهر من تلك البراءة؟

قبل ستين عاماً كنت أعيش أيام الطفولة ولياليها بكل أبعادها وإيحاءاتها.

كنت أعيش تلك الأيام مع أقراني من الأطفال أوقاتاً تغمرنا خلالها البهجة، وأوقاتاً ننغمس خلالها في بحر الشقاوة البريئة لكن لأيام عيد الأضحى من تلك الأيام فرحتها الخاصة وعاداتها المميزة. الأيام الثلاثة، التي تسبق يوم العيد، كانت الأيام التي تجلب فيها الإبل والغنم إلى السوق ليشتريها القادرون أضحيات واجبة كالوصايا أو مستحبة كغيرها. وكانت استعدادات الأطفال لاستقبال تلك الأيام تبدأ بأمور منها محاولة الحصول على عصي من الخيزران فإن لم يتمكن من الحصول عليها عوض عنها عصي من الأثل وما كان أكثر من الأثل في عنيزة الفيحاء بالذات، استفادة ذاتية منه في أمور حياتية كثيرة، أو فائدة مجنية عامة - ربما لم تكن مقصودة مباشرة على المستوى الفردي-، وهي أن الأثل كان بمثابة مصدات لزحف الرمال التي كانت تحيط بالمدينة من بعض جهاتها.

من صباح اليوم الأول من تلك الأيام الثلاثة كان الأطفال ينطلقون إلى سوق بيع الأضاحي بعصيهم، ويتجولون بين الكبار متطلعين إلى شرائهم أضحياتهم. والعادة أن تركيز الأطفال كان على الغنم. وعندما يشتري الكبير أضحية يتسابق إليه من حوله منهم، وكل واحد يقول: (أوديه يا عم؟). وكان شعور من يوافق على ما رجا تحققه شعوراً عارماً بالفرحة فقد رأى أنه محل للثقة. وسواء أعطي نقوداً مقابل إيصالها إلى المنزل أو لم يعط فقد تحقق له ما أعد عصاه من أجله، وأن يهش بها على الغنم. على أن المهم أن يشعر كأنه أمير، وإن لم تدم تلك الإمارة إلا دقائق من نهار. فإن لم يصل شعوره إلى حد مرتبة الإمارة فسيصل إلى درجة رجل الأمير، وكم بين رجال الأمراء حينذاك من يخيفون! وكان من الأطفال من كان هشه قد يصبح مع قطع المسافة مبرحاً.

وفي صباح يوم العيد كان الناس، رجالاً والقليل جداً من النساء، وأطفالاً، يسارعون إلى مسجد العيد، أو كما كان يسمى مصلى العيد، لأداء الصلاة والاستماع إلى الخطبة. وكان ذلك المسجد، أو المصلى، هو الوحيد لأهل المدينة وضواحيها، تماماً كما كانت الحال عليه في جميع المدن النجدية. وكان ذهاب الناس إليه وعودتهم منه على الأقدام إلا النادر منهم، الذين كانوا يأتون على ظهور الحمير لأنهم في مزارع بعيدة نسبياً عن موقعه. وأكثر الجزارين، أو القصاصيب، ينطلقون سراعاً من مسجد العيد بعد الصلاة أو بعد سماع الخطبة الأولى. ولا تسل عن فرحة الطفل، وهو يدعى للإمساك برجلي الأضحية ويدها اليمنى عند تذكيتها، فيقوم بتلك المهمة فخوراً! ولأن جلد الأضحية كان مفيداً جداً، إذ تعمل منه بعد دبغه قرب الماء أو أسقية اللبن، كان من يسلخها يحرص كل الحرص على تفادي حدوث أي شق فيه.

وإذا كانت الأضحية بعيراً كان المشهد أكثر إثارة للأطفال، لكنهم كانوا يراقبون عملية نحرها من بعيد نوعاً ما. ومن أغرب ما شاهدته أن الجزار بعد أن أكمل سلخ سنام البعير بشطه من أعلاه، ثم استخرج دهناً منه، وشربه. هل كان الناس حينذاك يفكرون في شيء اسمه كولوسترول أو يعرفونه؟ الحكم في ذلك يمكن أن يستنبط من طبق الحنيني - على طريقة أهل القصيم - وإحاطته ببركة من الزبد المذاب، أو ازدراد إلية الضأن قبل البدء بأكل لحمها، أو شرب السمن من كعته مع رِبِّها.

وبعد تناول حميسة العيد بما كان لها من نكهة ومذاق تكون مفارش الخوص مجهزة لاستقبال حميس اللحم قبل نظمه في قلائد من حبال السوتلي، ولشرائح القفر المملح قبل نشرها فوق حبال القنب. أما القدور فجاهزة لخلع الشحم الذي كان الودك المستخرج منه هو الدهن السنوي مع الطعام، والخلع المعزول عنه من ألذ ما يجده المرء في عشائه.

وتهادي الناس، بعضهم بعضاً، أجزاء من لحوم الأضاحي كان أمراً معتاداً، تماماً كما كانت الصدقات منه على الفقراء مما يحرص الخيرون، على القيام به على أن من المعدمين، أو شبه المعدمين، من لم تكن صدقات اللحم تصل إليهم، ولم تكن تصل إليهم بالسرعة التي كانوا يأملون فيها وكان من أولئك الشاعر المجيد أبو دويرج الذي ينسب إليه قوله:

والله لولا خطبة الشيخ فينا

ما كن هذا اليوم عيد الضحية

ويقال: إن الشيخ صالح بن عثمان القاضي لما سمعه أرسل إليه ما طيب خاطره. ومن القصص عن حاجة ذلك الشاعر أن حاجاً درويشاً كان ماراً بعنيزة في طريقه إلى الحجاز. وطرق باب منزل أسرة كريمة، سائلاً أن تهبه طعاماً، فوضعت في قفته ما كاد يملؤها. وكان من سوء حظه أن طرق باب الشاعر، آملاً في الحصول على ما يكمل ملأها فما كان منه إلا أن أفرغ القفة مما كان فيها ليأكله، وأعادها إلى الدرويش فارغة ثم قال مصوراً ما حدث أبياتاً منها:

لقيت الصبح درويش يطق الباب عقله يوخ

وهو لا ناهم أنه يوم طق الباب محتاج

أنا وياه عريان شكا حاله على مصلوخ

ولا يلام مسكين فجاه من الدهر فاجي

كم في أمتنا في هذا العيد من أوضاعهم أسوأ بكثير من وضع أبي دويرج. لكن كاتب هذه السطور يختتم مقالته شبه السبحانية، بتكرار معنى ما أشار إليه في أولها: (إن مع العسر يسرا) و(سيجعل الله بعد عسر يسرا) وأعاد الله على أمتنا عيدها وقد انجلى عن سمائها كل ما يحجبها من قتام المصائب والذل.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5896 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد