Al Jazirah NewsPaper Sunday  07/12/2008 G Issue 13219
الأحد 09 ذو الحجة 1429   العدد  13219
الإمام تركي بن عبدالله إمام الأئمة

استرعى انتباهي لوحة وضعت معلما لأحد الشوارع الصغيرة تحمل اسم (شارع الأمير تركي بن عبدالله) هكذا.. بلقب الأمير!! مما أدى إلى استغرابي ودهشتي الشارع صغير!! ولقب الإمام بالأمير!!. أيقنت حينئذ أن الذي صنع تلك اللوحة.. والذي أمر بكتابتها.. والذي كتبها.. والذي وضعها.. كلهم لا يعرف عن الإمام تركي بن عبدالله شيئا، خصوصا إن كان من ناشئة الزمن الذين جهل أكثرهم تأريخ أسلافه المتأخرين فضلا عن تأريخ أسلافه المتقدمين.إن تركي بن عبدالله لا يضيره أن حُرِّف في لقبه، بل لا يهمه أن يوضع له لقب أيا كانت منزلة ذلك اللقب، وحق له ذلك، فالألقاب في ميزان الشرع لا تعني شيئا سوى التعريف بصاحب اللقب فقط؛ ولك أن تنظر في كتب الرواية عند ذكر الصديق أبي بكر أو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أو غيرهما إذ يذكر هكذا.. عن عمر بن الخطاب.. حدثنا أبو بكر.. قال علي بن أبي طالب.. وهكذا.. ولم ينقص من أقدار أولئك العظماء أن تركت ألقابهم.. فهم هم بألقابهم وبدونها.ولكن إذا كان الزمن - لسبب أو لآخر- يعتبر الألقاب ويضع لها ميزانا في العرف السائد فلا مانع من الرضوخ له، ولو كرها، ما دام المحظور الشرعي في ذلك منفيا، خصوصا إذا كان لبيان منزلة من هو أهل لذلك اللقب، ولربما يستأنس في اعتبار الألقاب بما ذكره مسلم في مقدمة صحيحه عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم).

إذا كان كذلك فلا أكرم من رجالات سطر التأريخ لهم مجدا بمداد من النصب واللأواء والتعب أن يختار لهم ما يتناسب مع مقاماتهم من الألقاب التي تنبئ عن منازلهم!!

أعود للإمام تركي رحمه الله فأقول: نعم إنه إمام بحق بل هو إمام الأئمة وابن الأئمة وأبو الأئمة.وإليك برهان ذلك في تعريف مختصر لبعض مآثره رحمه الله توضح سبب تلقيبه بتلك الألقاب.. نعم تعريف مختصر يتناسب مع المقام، إذ لبسط ترجمته موضع آخر لا يتسع له المقال.فمن مآثره رحمه الله تعالى:تأسيس الدولة السعودية الثانية ببذل جهد متواصل وبطولة متناهية وهمة يعجز عنها صناديد الأبطال والضراغمة الأشبال بعد أن كان الناس في هرج ومرج وذلك إثر سقوط الدرعية أواخر عام 1233هـ وإلى حين استولى على الرياض ونهضت الدولة أوائل عام 1240هـ فاستمرت قائمة على سوقها صلبة نقية، حتى ليمكن أن يقال فيه إنه توسط عقدا كالدرر وصل أوله بآخره فازداد رونقا وجمالا وأضاء بهجة ونورا!!جمع الله به البلاد النجدية بعد شتات وتفرق، بل اضطرابات وتمزق، وضياع يكل القلم عن وصفه، واستمع لشيء من ذلك برواية شاهد عيان خبير هو عندنا من الأعلام الثقات.. إنه المؤرخ عثمان بن بشر.. يقول في (عنوان المجد) (2-5): (فلما حل القضاء، وانتهى الأمد المكتوب وانقضى، انحل نظام الجماعة، والسمع والطاعة، وتطايرت شرر الفتن في تلك الأوطان، وتعذرت الأسفار بين البلدان.. وثارت في غالب البلدان الفتن والقتل والقتال والمحن، وظهر المنكر وعدم الأمر بالمعروف، وصار الرجل في جوف بيته وجلا مخوفا، وتذكروا ما بين أسلافهم من الضغائن الخبيثة القديمة.. وهجر كثير منهم الصلاة وأفطر في رمضان.. واندرس السؤال عن أصول الإسلام وأنواع العبادات، وظهرت دعوى الجاهلية في كل البلاد، وتنادوا بها على رؤوس الأشهاد وتتابعت هذه المحن في تلك الجزيرة نحو أربع سنين، والشر فيها في زيادة وظهور وتمكين، حتى أنعش الله تعالى أهل نجد بشبل من أشبال ملوكها وسلاطينها فبذل نفسه وجرد سيفه لاجتماعها وتمكين دينها.. وساعده السعد والنصر والرشاد، وحاصر من عصى عليه من أهل البلدان، وحارب الباغي من العربان، حتى أمنت البلاد، وصار أهل نجد كلهم جماعة، وبايعوه على السمع والطاعة).

ومنقبة أخرى للإمام أن رفع راية التوحيد الخالص وبذل جهده في نصر دين الله واهتم بدعوة الناس إليه في سائر الأقطار القريبة منه والبعيدة، فحمل الناس على سلوك الطريقة الحسنة، واعتقاد الشريعة السوية، اقتداء بالسنة المحمدية على منهج واضح جلي؛ فعمرت في وقته المساجد بالصلوات، والمدارس في تعليم أصول الإسلام وفروع العبادات، فأحيا الله به ما اندرس من معالم آبائه الكرام، ورفع به مقام أهل الإسلام.. قرب العلماء الأجلاء إليه واتخذهم بطانة موثوقين، وفي حال حربه وسلمه مستشارين.ومن حسناته المذكورة المشكورة في هذا المجال أن كان سببا في قدوم الشيخ العلامة والمجدد الثاني الإمام عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، وكان قد أجلي إلى مصر إثر سقوط الدرعية، فلما قدم نجدا حل بها السعد.. فرح به الإمام وأكرمه غاية الإكرام، واغتبط بطلعته خاص المسلمين والعام، فعظموه وقاموا بما يستحقه من الإعظام.. بذل نفسه للطالبين وانتفع بعلمه كثير من المستفيدين؛ فأصبح منهم القاضي والمفتي والمعلم والمرشد.. بعثهم الإمام تركي إلى الأوطان لينشروا العلم بين الأنام.. تحملوا الدعوة وبلغوها حتى صاروا أئمة من أئمة الدعوة السلفية في البلاد السعودية فحق للإمام تركي أن يكون إمام الأئمة بلا فخر، كيف وتحت ولايته أئمة من أمثال الإمام عبدالرحمن بن حسن والإمام علي بن حسين بن محمد بن عبدالوهاب والإمام عبدالله بن عبدالرحمن أبابطين والإمام عبدالله بن أحمد الوهيبي والإمام محمد بن مقرن وغيرهم ممن رفع الله لهم بين الأنام ذكرا فرحمهم الله جميعا وأحسن مثوبتهم.ومن حسنات الإمام في هذا المجال أيضا إنشاء الجامع الكبير في مدينة الرياض والذي أصبح صرحا شامخا ومعلما من معالم الدعوة في سائر الأقطار الإسلامية اليوم.. جامع الإمام تركي منذ أنشئ وحتى هذه اللحظة يعتبر في تاريخ الإسلام مدرسة علمية عملية من خلال ما أقيم ويقام فيه من الدروس العلمية في سائر الفنون الإسلامية، قام بالتدريس فيه علماء أجلاء ودعاة خير أوفياء يتعاقبون عليه الليل والنهار عبر قرنين من الزمان في مقدمتهم الشيخ عبدالرحمن بن حسن ثم ابنه الشيخ عبداللطيف ثم ابناه الشيخ عبدالله والشيخ محمد ثم الشيخ محمد بن إبراهيم ثم الشيخ عبدالله بن حميد والشيخ عبدالعزيز بن باز وغيرهم الكثير الكثير من العلماء المشهورين إلى يومنا هذا، وسيبقى المسجد صرحا شامخا ومنبعا للدعوة السلفية قرونا وقرونا طويلة بإذن الله تعالى فلا حرم الله الإمام أجر ذلك بمنه وكرمه.أما عن مناقب الإمام تركي الشخصية وصفاته العلية فقد عرف عنه التواضع الجم يعطف على اليتامى والمساكين والأرامل، امتاز بالحلم والأناة، في تمام رأي وشجاعة، يقول ابن بشر في (عنوان المجد) (2-65): (وهو في تواضعه كرجل من عامة المسلمين يلبس مثلهم في اللباس، ومثلهم على الراحلة إذا ركب في الناس، أبوابه لا تُرد، وحجابه لا تَرُد، ويكافحه الجافي فيرد عليه أحسن رد، وتوقفه المرأة والضعيف للحاجة فيقف ولا يصد) ويقول في (2-68) (وكانت اليتامى من كل بلد عنده في قصره، وكل أرملة ومنقطع يحسن إليه ويبره، وهو الذي يتولى إلباسهم كسوتهم بيده تواضعا، ولا يقدم إليهم الطعام إلا بحضرته، وكان لا يخل بمجامع الدروس واجتماع المسلمين، وفي كل يوم خميس واثنين يخرج من قصره فيجتمع الناس لذلك أجمعين وكان العالم المقدم في ذلك المجلس الشيخ عبدالرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وكانت القراءة عليه في ذلك المجلس تارة في تفسير ابن جرير وتارة في كتب الحديث).وقد كانت له محبة في قلوب رعيته مع إجلال وهيبة؛ الصغير منهم والكبير على حد سواء، فجعوا عند موته في عام 1249هـ وتأثروا ببالغ الأسى.

قال ابن بشر (2-66): (لما أتانا الخبر بقتل الإمام ونحن قادمون بلد القويعية راجعين من الحج، ماج الناس بعضهم في بعض، وضاقت بما رحبت عليهم الأرض، وبلغت القلوب الحناجر، وظن أن يقع بين الناس التشاجر).. نعم هكذا فلتكن الإمامة في الدين والدنيا..

انتهى المقال ولم ينته الحديث بعد، فلعل الله أن ييسر إتمامه..

نسأل الله أن يرحم الإمام تركي ويرفع درجته في عليين ويجمعنا به في جنته.. آمين.

أحمد بن عبدالعزيز الجماز - شقراء



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد