في مقال سابق عن حوار الحضارات، أشرتُ إلى أهمية رسم إطار عمل مؤسسي لتأصيل مبادئ الحوار وآدابه مع الآخر، وإشاعته، وتنمية مهاراته، وفق أسس علمية دقيقة، وذلك على خلفية انعقاد المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار الذي نُظِّم بوساطة الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة.
ويأتي انعقاد مؤتمر نيويورك لحوار أتباع الأديان والثقافات والحضارات المعتبرة، برعاية الأمم المتحدة، وبمبادرة من خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، مروراً بمؤتمر مدريد، في إطار استمرار بناء قواعد التأصيل، لثقافة الاحترام المتبادل للأديان والحضارات والخصوصيات الثقافية، دون إقصاء أو استبعاد أو نفي، وتغليب مبادئ وقيم التعايش السلمي والتسامح، وتعزيز التعاون والشراكة، وتوسيع دائرة المنافع المتبادلة، بين أتباع هذه الأديان بكل أطيافها وألوانها، وبما يسهم في المعالجة الفاعلة للقضايا والمشكلات العالمية الراهنة، التي تؤرق البشرية، وفي مقدمتها قضايا فلسطين والعراق وأفغانستان، ومشكلات الفقر والبطالة، فضلاً عن الأزمة المالية العالمية الراهنة التي أفرزتها آليات النظام الرأسمالي، وانعكست بقسوة شديدة نسبياً على اقتصاديات العالم ومراكز الاستثمار.
لقد اتسم خطاب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أمام مؤتمر نيويورك، بالصراحة والمصداقية والشفافية، وقد توقفت ملياً عند فقرة مهمة من خطابه، والتي جاء فيها:
(إنَّ التركيز عبر التاريخ على نقاط الخلاف بين أتباع الأديان والثقافات قاد إلى التَّعصُب، وبسبب ذلك قامت حروب مدمرة سالت فيها دماء كثيرة لم يكن لها مبرر من منطق أو فكر سليم، وقد آن الأوان لأن نتعلم من دروس الماضي القاسية، وأن نجتمع على الأخلاق والمثل العليا التي نؤمن بها جميعاً، وما نختلف عليه سيفصل فيه الرب سبحانه وتعالى يوم الحساب).
لقد حدَّد الملك عبد الله بعبارات لا ينقصها الوضوح، مكمن العلة والداء، فالتَّعصُب والتَّطَرُّف، هما الوقود الذي أشعل حرائق الإرهاب والكراهية والباطل والغلو والإفساد بين الشعوب والثقافات الإنسانية في الماضي والحاضر، وأدخل منظومتنا الكونية في صراعات مريرة، وجروح غائرة، هنا وهناك.
ولأنَّ التَّعصُب والتَّطرُّف كما قال الدكتور راشد المبارك (خبز عالمي وجُد في كل الشعوب، ومورس من قبل أفرادٍ وجماعات من أتباع كل الديانات والمذاهب، على اختلاف أطيافها) فإنَّ معالجته لن تتأتى عبر حلول أُحادية الجانب، أو عبر التَّطرف الجامح في استخدام الآلة العسكرية للبطش والعدوان، والذي لم يسهم سوى في تأجيج المزيد من الصراعات والانقسامات العالمية، وسفك المزيد من الدماء المحرَّمة، واستباحة الأراضي والمقدرات، وتعطيل مشاريع التنمية والعمران. بل وعلى العكس من أهدافه المعلنة أسهم هذا السلوك أُحادي الجانب في ازدياد موجات التَّعصُب والتَّطَرف، وتخصيب نظريات صدام الحضارات، وصراع الأديان، ونهاية التاريخ التي يتبناها اليمين المسيحي المتطرف.
إنَّ المعالجة، هنا، تتأتى عبر مراجعة دقيقة للسياسات الحالية، خاصة السياسة الأمريكية، وصولاً إلى تفاهمات أممية مشتركة، من خلال المحافل الدولية المعتبرة، والعمل على صياغة آليات عمل موحدة، لبلورة الأفكار والمقترحات الفاعلة، القادرة على تأسيس قاعدة صلبة للتعايش السلمي العالمي، وتغليب الحوار والتفاهم الأممي، وبما يهيئ الأجواء الملائمة لمعالجة القضايا والمشكلات العالمية الراهنة، وإطفاء بؤر التوتر المشتعلة، المؤججة للتَّعَصُب والتَّطرف، بشتى صوره.
حين تضطرب قواعد النظام الدولي، ويختل ميزان العدل، وتُنتهك مصالح الدول والشعوب، وتطغى قوة البغي والعدوان، فلا مندوحة من ظهور جماعات أو حركات التَّطرف، ونشوء ظاهرة الإرهاب تبعاً لذلك، ومن ثمَّ فقد أخذت نُخب فكرية وسياسية عالمية متعددة تربط بين معالجة القضايا والمشكلات الدولية الراهنة من جهة، ومعالجة ظاهرة الإرهاب من جهة أخرى، فعلى سبيل المثال اعتبر المفكر والسياسي اليهودي (أوري أفنيري) مؤسس كتلة السلام في إسرائيل والمعارض للسياسات الأمريكية والإسرائيلية - نقلاً عن الأستاذ سليم نصار- أنَّ ظاهرة الإرهاب لا يمكن التخلص منها من دون علاج سياسي لأسبابها، وربط بين مسألتي القضاء على القاعدة والمعالجة العادلة لقضية فلسطين وسائر مشكلات الشرق الأوسط العالقة.
إذن لم يعد الوقت ملائماً، ولا مناسباً، لاستمرار التنظير المختزل لظاهرة الإرهاب، بل آن الأوان لتضميد الجراح، فالجميع قد اكتوى بناره، بل إنَّ المسلمين المتهمين برعاية الإرهاب وتفريخه هم أكثر أمم الأرض قاطبة تحمُّلاً لتبعاته وإفرازاته القاسية والظالمة على شعوبهم وأمنهم واقتصادياتهم.
إنَّ المجتمعات والشعوب الإنسانية بحاجة أكثر من أي وقتٍ مضى إلى بناء علاقات إنسانية وفق قواعد التعايش السلمي والتعاون المثمر، مصداقاً واتباعاً للتوجيه الربَّاني العظيم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} وبحاجة كذلك إلى نظام دولي أكثر عدالة ونضجاً، يمنع الظلم والتعدي، ويصون الحقوق والموارد.
مؤتمر نيويورك وجولته الحوارية الثالثة يفتح المزيد من نوافذ الأمل بغدٍ أفضل، وعلاقات أممية متوازنة، يُعزَّزُ من ذلك هزائم وانكسارات تنظيم القاعدة واليمين الأمريكي المتطرف.
من مأثور الحكم: يَقُودُ التَّطَرُّف إِلى التَّهَوُّرِ، ويُفْضِي الاعْتِدالُ إِلى الحِكْمَةِ.