كنت في مقالة سابقة تحدثت عن عناية الملك عبدالعزيز بالمسجد الحرام، وفي رأيي أن الحديث عن عنايته بالمسجد الحرام لا يكتمل إلا بالحديث عن عنايته بالمسجد النبوي الشريف.
فعناية الملك عبدالعزيز بالمسجد النبوي لا تقل كثيراً عن تلك العناية التي أولاها رحمه الله للمسجد الحرام بمكة المكرمة، وهي مكملة لتلك العناية والرعاية ومشابهة ومزامنة لها، حيث تنوعت رعايته للمسجد النبوي الشريف ما بين أعمال الترميمات والصيانة وإيصال الخدمات والتوسعة.
أما عن الترميمات والصيانة فقد بدأت منذ وقت مبكر وبالتحديد منذ أن زار الملك عبدالعزيز المدينة المنورة لأول مرة في عام 1345هـ، حيث أمر رحمه الله بترميم ما يحتاج المسجد إليه من الترميمات.
وفي عام 1348هـ رفع إلى جلالته عن حاجة بعض اسطوانات المسجد إلى تدعيم فأمر بإجراء اللازم، وشدت الاسطوانات بسوارات حديدية قوية، كما أجريت بعض الإصلاحات والترميمات الأخرى في أرضية المسجد وفي الأروقة. وفي عام 1350هـ تمت بعض الإصلاحات الأخرى في بعض الأعمدة والسواري الشرقية والغربية.
وفي عام 1368هـ أثيرت قضية من بعض الزوار المصريين تحولت بعد ذلك إلى ادعاءات مبطنة تقول بتعرض المسجد النبوي للخطر من السقوط وحولت تلك الدعاوى إلى حملة إعلامية وجمع للتبرعات للإصلاحات المزمعة في المسجد والتي لم يكن الهدف منها فيما يبدو خدمة المسجد النبوي بقدر ما كان الهدف منها النيل من المملكة العربية السعودية وحكومتها وإحراجها أمام العالم الإسلامي.
ولكن الملك عبدالعزيز استطاع ببعد نظره أن يتعامل مع تلك الزوبعة بحكمة وسياسة عالمية وأن يقف موقفاً مشرفاً أمام تلك الحملات المغرضة وأن يقطع الطريق أمام أصحابها حين طالب برد التبرعات إلى أصحابها وأعلن رحمه الله بأنه سيقوم بإعمار المسجد النبوي من ماله الخاص وكلف مدير الإنشاء والتعمير الشيخ محمد بن لادن بدراسة وضع المسجد النبوي ورفع تقرير مفصل عنه.
وبعد أن اطلع رحمه الله على التقرير المطلوب المبني على دراسات علمية أجراها مجموعة من المهندسين ذوي الخبرة وافق عليه وأصدر أمره بالمضي قدماً في المشروع الذي كان يتطلب هدم بعض المباني المجاورة للمسجد لضم المزيد من المساحات إليه، وأمر بنزع الملكيات اللازمة وتعويض أصحابها بالعدل والإنصاف.
وفي الخامس في شهر شوال من عام 1370هـ بدأت الخطوات العملية لتنفيذ المشروع المقترح بعمليات الهدم اللازمة، وكان المشروع من الضخامة والمتانة مما تطلب لتنفيذه خمس سنوات كان خلالها الملك عبدالعزيز قد انتقل إلى رحمة الله تعالى، فقام خلفه الملك سعود بن عبدالعزيز بإكمال المشروع الذي انتهت خطواته التنفيذية في نهاية شهر صفر من عام 1375هـ، وافتتح بعد التوسعة في الخامس من ربيع الأول من العام نفسه، حيث أقيم احتفال كبير بمناسبة انتهاء المشروع السعودي الكبير الذي يعد نقلة تاريخية كبيرة في تاريخ عمارة المسجد النبوي.
ففي ذلك المشروع السعودي رمم جزء من المبنى القديم، وهدم وأعيد بناء (7426) متراً مربعاً من مساحته القديمة، وبنيت خلال هذا المشروع كامل مساحة التوسعة الجديدة التي زادت من مساحة المسجد (4206) أمتار مربعة جديدة، ليصبح مسطحه الإجمالي بعد الهدميات القديمة وإعادة البناء والتوسعة الجديدة (72361) متراً مربعاً.
وليبقى ذلك المبنى بعد اكتماله شاهداً حياً ينضم إلى غيره من الشواهد الحية الأخرى، مثل مشروع توسعة المسجد الحرام بمكة المكرمة وغير ذلك من بيوت الله التي أقيمت في أرجاء المملكة العربية السعودية خلال عهد الملك عبدالعزيز، لتبرهن هذه الشواهد للجيل المعاصر وللأجيال اللاحقة بإذن الله على مدى الرعاية والاهتمام الذي كان الملك عبدالعزيز رحمه الله يوليها لبيوت الله عامة وللحرمين الشريفين بشكل خاص. ولتكون تلك اللبنات المباركة أساساً مهماً انطلقت بعده الجهود المباركة لحكام المملكة العربية السعودية من أبناء المؤسس في خدمة الحرمين الشريفين مما سجله التاريخ من توسعات وخدمات جليلة تزداد وتتواصل يوماً بعد يوم ولله الحمد والفضل والمنة.
*رئيس قسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية