الرياض - خاص بـ(الجزيرة)
أكد فضيلة الشيخ الدكتور أحمد بن علي سير المباركي عضو هيئة كبار العلماء، عضو اللجنة للبحوث العلمية والإفتاء، أن الحج أعظم وسائل التعارف بين الشعوب الإسلامية؛ لاتصالهم ببعض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم.. وقال: إن هذا التعارف يأتي بأن الحجيج مجتمعون في مكان واحد، وزمن واحد، عند قبلتهم الواحدة.
وأشار الدكتور المباركي إلى أن الحج أعظم العبادات البدنية والمالية؛ فهو ركن من أركان الإسلام، وعلى الحاج أن يتحمل التعب والمشقة في أداء الفريضة.
جاء ذلك في حوار الشيخ الدكتور أحمد بن علي سير المباركي ل(الجزيرة)، وفيما يأتي نصه.
* الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، فما هو فضل هذا الركن كما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟
- إن عبادة الله - جل وعلا - هي الحكمة من الخلق، قال سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وأنواع التعبد لله متعددة ومتنوعة، لكن يجمع ذلك كله الخضوع، والتذلل لله بفعل أوامره وترك نواهيه، سواء كانت عبادات قلبية، أو بدنية، أو مالية، أو مركبة من ذلك.. والحج إلى بيت الله الحرام من أعظم العبادات البدنية المالية، وهو ركن من أركان الإسلام، وأحد مبانيه العظام، ومن رحمة الله تعالى أنه لم يفرض على المسلم المستطيع إلا مرة واحدة في العمر، وما زاد فهو تطوع، قال الله سبحانه {وَلِلّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْه سَبِيلاً}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً). وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا. فقال رجال: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى قالها ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم. وإن في أداء الحج استجابة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبرهاناً على صحة إسلام الشخص ومحبته لدينه، قال الله تعالى {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَج عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَة الْأَنْعَامِ}، وقال سبحانه {وَلِلّه عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْه سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِي عَنِ الْعَالَمِينَ}.
* كيف يتحقق للحاج أداء الثواب والأجر الكبير عند أداء الفريضة؟
- حصول الثواب العظيم، والأجر الكبير لمن أدى هذه العبادة على الوجه المشروع، مخلصاً لله تعالى، متبعاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أداه على الوجه الكامل فهو موعود بمغفرة الذنوب الماضية، ودخول الجنة؛ فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (مَنْ حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). والرفث: الجماع حال الإحرام، والفسوق: جميع المعاصي.
* التعب والمشقة اقترنا بأداء هذه الفريضة.. لماذا؟
- إن الحج نوع من الجهاد والمجاهدة في سبيل الله، وفيه من المشاق والتعب ما يثيب الله عليه الأجر الجزيل، فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال: لكن أفضل الجهاد حج مبرور. فمن فضائل الحج أنه محّاء للذنوب والفقر، وسبب من أسباب البركة والغنى، فقد ثبت عن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة).
* ما المقاصد التي يراد تحقيقها في الحج؟
- من المقاصد المراد تحقيقها في الحج التقوى، وهي غاية كل أمر، وجماع كل خير، والحج فرصة كبرى للتزود منها، والوصول إلى أعلى مقاماتها، ومن تأمل آيات الحج رأى تكراراً وتأكيداً في الحض على التقوى في أثناء التقلب في أداء المناسك، قال الله تعالى {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}، وقال سبحانه {لَن يَنَالَ اللَّه لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُه التَّقْوَى مِنكُمْ}، وقال تعالى {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّه فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}، وقال جل وعلا {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْه وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْه لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللّه وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْه تُحْشَرُونَ}، وهذه التقوى تحصل بفعل المناسك، والتقرب إلى الله بأنواع القربات القاصرة والمتعدية، ويبقى أثرها مستمراً مع العبد متى ما كان صادقاً مخلصاً لله بتوفيق الله وفضله، وهذا من أكبر المقاصد التي من أجلها شرع الحج.
* العبودية والتذلل لله، وهجران الأهل والأولاد، هل كل هذا يضاعف من حسنات الحاج؟
- في الحج تظهر العبودية واضحة جلية، ففيه التذلل لله، والمسكنة، والخضوع من جهات عدة، كهجر الوطن والأهل والمال، وترك الترف والطيب، وكثرة اللجوء إلى الله تعالى، والاستغفار، والإلحاح بالدعاء، والندم على ما سلف من ذنوب وتقصير في الحياة، وكل ذلك محبوب لله، مقصود إيقاعه من العبد ليقرب إلى الله ويتطهر من الذنوب، وتزكو نفسه، فينال بذلك الزلفى عند الله - جل وعلا -. قال في بدائع الصنائع: (أما إظهار العبودية فلأن إظهار العبودية هو إظهار التذلل للمعبود، وفي الحج ذلك، لأن الحاج في حالة إحرامه يظهر الشعث، ويرفض أسباب التزين، والارتفاق، ويتصور بصورة عبد سخط عليه مولاه، فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه ورحمته إياه، وفي حال وقوفه بعرفة بمنزلة عبد عصى مولاه فوقف بين يديه متضرعاً حامداً له، مثنياً عليه، مستغفراً لزلاته، مستقيلاً لعثراته، وبالطواف حول البيت يلازم المكان المنسوب إلى ربه بمنزلة عبد معتكف على باب مولاه لائذاً بجانبه). ومن فضائل الحج التي يسعى لتحصيلها كل عاقل، العتق من النار؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة).
* ما المقاصد الكبرى التي يستهدف تحقيقها من الحج؟
- من المقاصد الكبرى في الحج إقامة ذكر الله تعالى، ودعاؤه، وتعظيم شعائره، بدءاً بالتلبية الدالة على التوحيد الخالص ونبذ الشرك إلى آخر أعمال النسك من لبس ملابس الإحرام والطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والوقوف بعرفة، والمبيت بمنى ومزدلفة، فالحج من أوله إلى آخره ذكر ودعاء في حال السفر والإقامة وقبل العبادات وبعدها وعلى كل حال؛ قال الله تعالى {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّه كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}، وقال سبحانه {وَاذْكُرُواْ اللّه فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}، وقال جل وعلا {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ}، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله).
* الذبح والتقرب إلى الله بسفك الدماء.. ماذا يعني ذلك؟
- تظهر عبادة الذبح لله تعالى، والتقرب إليه بسفك دماء الهدايا الواجبة والمستحبة، والانتفاع بأكلها، والتصدق منها على الفقراء والمساكين والمحتاجين، كل ذلك محبوب لله - عز وجل - ويثيب عليه الثواب الجزيل، وهو من دلائل توحيده وتعظيمه، قال الله تعالى {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّه فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَة الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}.
* الاجتماع في مكان واحد من حشود من البشر، جاءوا من كل مكان، يرتدون زياً واحداً، ورؤوسهم مكشوفة، هل في ذلك تذكرة ليوم القيامة؟
- في الحج تذكير بالآخرة، ويوم الحشر، والوقوف بين يدي الله - جل وعلا - يوم القيامة، فالحجاج يجتمعون في زي واحد، مكشوفي الرؤوس، متجردين من ثيابهم وملذاتهم، وهم من سائر البقاع والأجناس، قد اجتمعوا في صعيد واحد ملبين دعوة الله، وهذا الحال يشبه وقوفهم بين يدي الله يوم القيامة في صعيد واحد خائفين وجلين مشفقين، قد لبوا دعوة الله، وقاموا من قبورهم ليوم الحساب، وهذا مما يبعث في نفوس الحجاج الخوف من الله، ومراقبته، والإخلاص له في العمل، والاستعداد ليوم الميعاد، واستصغار الحياة الدنيا، وعدم الاستغراق فيها، فتكون حالهم بعد حجهم أحسن مما قبله، فيشمروا عن ساعد الجد لعمل الآخرة بقية أعمارهم. وفي الحج تجديد الصلة بإمام الملة الحنيفية أبي الأنبياء إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - ومشاهدة الآيات البينة، والمقامات الشريفة التي قامها لله مخلصاً له الدين، وفي ذلك من تقوية الإيمان والربط على القلوب، والاعتزاز بالانتماء إلى إمام الموحدين، والانتصار على أهواء النفوس ما لا تستطيع أن تعبر عنه الكلمات.
* كيف يحقق الحج التآلف والتآخي بين المسلمين؟
- الحج من أعظم وسائل التعارف بين الشعوب الإسلامية واتصالها ببعض على اختلاف أجناسهم ولغاتهم، فالحجاج مجتمعون في مكان واحد وزمن واحد عند قبلتهم الواحدة، وهذا الاجتماع والتعارف موجب لتقوية أواصر التآخي بين المسلمين، والإحساس بوحدة العقيدة، والآمال، والمصير، وهذا داع للتعارف والاشتراك في تحقيق مصالح الدنيا والدين، ونصرة المستضعفين، وإغاثة الملهوفين، وحل مشكلات المسلمين، وتعليم الجاهلين، وإرشاد الضالين، والدعوة إلى الخير.. وفي الحج - بل في كل عمل من أعمال الحج - تذكرة للمتذكرين وعبرة للمعتبرين. وعلى كلٍ، فحري بالمسلم أن يتعلم من دينه ما يصلح به أعماله، ويثبت به قلبه، وأن يكون حال أداء هذه العبادة على أكمل ما يكون من فقه، وفَهْم، وحسن خلق ومعاملة مع إخوانه المسلمين؛ حتى يجد طعم العبادة، وحلاوة الإيمان.