دعيت وأخ وزميل عزيز، ألا وهو الدكتور عبداللطيف بن حمود النافع، الأستاذ بقسم الجغرافيا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، دعانا الدكتور عبيد بن سرورالعتيبي، رئيس قسم الجغرافيا بجامعة الكويت، للمشاركة بمحاضرات، ضمن فعاليات اليوم الجغرافيا.... |
...الذي يعقده القسم كل عام، ألقيت محاضرة عن مفهوم المكان في الجغرافيا. أما الدكتور النافع فألقى محاضرتين: واحدة عن تاريخ شبه الجزيرة العربية الجيومورفولوجي والأخرى عن الجغرافيا الأدبية، ألقى هذه الأخيرة في مقر الجمعية الجغرافية الكويتية، بناء على دعوة منها. كان ذلك في شهر ربيع الثاني من هذا العام في رحاب جامعة الكويت وباستضافة كريمة منها. |
واسمح لي أيّها القارئ الكريم أن آخذك في جولة، بل عبر لقطات مما ورد في محاضرة الزميل النافع عن الجغرافيا الأدبية، حيث تضمنت لمسات علمية مقرونة بلفتات أدبية جميلة ومهذبة تجعل المستمع، أو القارئ، لها ينتقل إلى عالم الشعر ويجنح من خلالها لعالم من الخيال يسوح به في صحارينا الجميلة، التي طالما أدلج عبرها المسافر وغنى فيها الشاعر وصدح فيها الطير وناحت في مناكبها الهجن. |
وما أورده الدكتور النافع من أشعار تضمنت مفاهيماً وتحدثت عن ظواهر جغرافية تعتبر ضمن مجالات الجغرافيا السبعة التي أوردها المحاضر وتشمل سبعة مجالات: تحقيق أسماء الأماكن والأعلام الجغرافية، توحيد المصطلحات الجغرافية وترجمتها، الجغرافيا الفلكية، الجغرافية الحيوية (النبات والحيوان)، أشكال سطح الأرض، الجغرافيا المناخية (بما فيها المياه)، الجغرافيا البشرية. وللأدب متمثلا في الشعر (فصيحه وعاميه، قديمه وحديثه) صولات وجولات، وما المحاضرة إلا شاهداً على ذلك. |
تصدر النافع محاضرته ببيت من الشعر للشاعر خلف العتيبي، الذي يقول فيه: |
(السراة تعاند الريح عن صحراء النفود) |
والمقصود هنا أن سلسلة جبال السروات تمثل مصدات للرياح المتجهة للنفود. والنفد، والكثبان الرملية كثيرة في صحراء العرب (منها الثويرات) وكذلك المرتفعات والحافات والضلوع (ومنها ضلع طويق). أما مدينة الزلفي، بلدة المحاضر، فتقع بين طويق، الذي يقع في شرقها، والثويرات، التي تقع في غربها، فهلم لشاعر يصف الموقع إياه جغرافيا: |
أظن ما يحتاج ناصف لك الدار |
ما قف طويق حي هاك الديارا |
شرقيها ضلع كما المزن طهار |
وغربيها من نايفات الزبارا |
ومن الأعمال، التي ذكرها المحاضر، في مجال تحقيق أسماء الأماكن والأعلام الجغرافية: كتاب د. مفيد قميحة عن شرح المعلقات العشر، الصادر عن مكتبة دار الهلال، وكتاب معجم البلدان، وكتاب الجغرافيا الأدبية للشيخ محمد بن بليهد، والذي حققه د. محمد بن سعد بن حسين، وسلسلة نصوص وأبحاث جغرافية وتاريخية عن جزيرة العرب، التي أصدرتها دار اليمامة للبحث والترجمة والنشر بالرياض: المعجم الجغرافي للمنطقة الشرقية للشيخ حمد الجاسر والمعجم الجغرافي لبلاد القصيم للشيخ محمد العبودي. |
وعن الخصائص النباتية ومستوطناتها، يقول شاعر واصفاً على وجه الخصوص نبات الأراك: |
فبت وباتت كالنعامة ناقتي |
وباتت عليها صفنتي وقتودها |
وأغضت كما أغضيت فعرست |
على الثفنات والجران هجودها |
على طرق عند الأراكة ربة |
توازي شريم البحر وهو قعيدها |
أما فيما يتعلق بتوحيد المصطلحات الجغرافية فمن الكتب التي حققت كتاب فقه اللغة وسر العربية للثعالبي، الذي نشرته دار الكتاب العربي، وورد في الكتاب 40 اسماً للصحراء و35 اسماً للمطر و 28 اسماً للسحب و25 اسماً للرياح. وهناك كتاب لسان العرب لابن منظور، الذي أصدرته دار صادر في بيروت، وكتاب أشكال سطح الأرض في شبه الجزيرة العربية، الذي ألفه د. عبدالله بن يوسف الغنيم. |
وفي مجال الجغرافيا الفلكية أورد النافع أبياتاً للشاعر زهير بن أبي سلمى يذكر فيها المجرة: |
على لاحب مثل المجرة خلته |
إذا ما علا نشزا من الأرض مهرق |
ويقول الشاعر أبو تمام الطائي واصفاً الكواكب بما فيها المذنب الغربي: |
والعلم في شهب الأرماح لامعة |
بين الخميسين لا في السبعة الشهب |
وخوفوا الناس من دهماء مظلمة |
إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب |
وصيرو الأبرج العليا مرتبة |
ما كان منقلبا أو غير منقلب |
أما الشاعر الشريف بركات فيقول: |
بيوم من الشعرى تستوقد الحصى |
تلوذ بأطراف المطايا جخاذبه |
والمقصود بالشعرى اليمانية والجخاذب حشرات تختبئ في وبر الإبل. وفي مجال الجغرافيا الحيوية، التي تشمل النبات والحيوان، يصف الشاعر أمرؤ القيس حصانه في معلقته المعروفة: |
له أيطلا ظبي وساقا نعامة |
وإرخاء سرحان وتقريب تتفل |
ويقول الشاعر لبيد بن ربيعة واصفاً صراع وتقاتل الوعول في الصحراء: |
حتى إذا يئس الرماة وأرسلوا |
غضفا دواجن قاتلا أعصامها |
فلحقن واعتكرت لها مدرية |
كالسمهرية حدها وتمامها |
لتذودهن وأيقنت إن لم تذد |
أن قد أحم الحتوف حمامها |
فتقصدت منها كساب فضرجت |
بدم وغودر في المكر سخامها |
وشاعر آخر، لم يذكر المحاضر اسمه، يقول: |
لنا الجبلان من أيام عاد |
ومجتمع الألآءة والعضاة |
والعضاة شجر بري ، ويقول شاعر بني عبس، عنترة بن شداد واصفا واحدة من الروضات: |
أو روضة أنفا تضمن نبتها |
غيثا قليل الدمن ليس بمعلم |
جادت عليه كل بكر حرة |
فتركن كل قرارة كالدرهم |
سحا وتسكابا فكل عشية |
يجري عليها الماء لم يتصرم |
وخلا الذباب بها فليس ببارح |
غردا كفعل الشارب المترنم |
هزجا يحك ذراعه بذراعه |
قدح المكب على الزناد الأجدم |
أما الشاعرة ظاهرة الشرارية، أو مغيضة الدليمان، فتقول عن اختلاط السمح بحبات الرمل: |
حظي كما سمح تنثر بظاحي |
يا من يعزل السمح والرمل غاشيه |
يجيه من وبل الثريا طياحي |
ينبت وحنا داير الحول نجنيه |
وهنالك مجال أشكال سطح الأرض من جبال وتلال ووهاد ووديان وسهول وكثبان رملية، ولقد وصف الشعراء هذه المظاهر الأرضية أحسن وصف، ولربما أدقه، فيصف أمرؤ القيس جزءاً من جسم إنسان مثل كثيب رمل تلبد بعد مطر أصابه: |
له كفل كالدعص لبده الندى |
إلى حارك مثل الغبيط المذأب |
ويصف عمرو بن كلثوم حافة اليمامة (أو حافة طويق): |
فأعرضت اليمامة واشمخرت |
كأسياف بأيدي مصلتينا |
والشاعر المبدع محمد الأحمد السديري، يصف المظاهر الأرضية ويوظفها لوصف بعض المعاني الإنسانية: |
يقول من عدا على راس عالي |
رجم طويل يدهله كل قرناس |
في راس مرجوم عسير المنال |
تلعب به الارياح مع كل نسناس |
في مهمه قفر من الناس خالي |
يشتاق له من حس بالقلب هوجاس |
أما في مجال المناخ والمياه فحدث ولا حرج، فلقد نال نصيباً وافراً من الوصف، حيث أن الصحراء يشح فيها الماء للحاضر والباد، فأورد النافع أبياتاً للشاعر عبدالهادي الروقي (أو فهد العجمي)، كما يذكر: |
عديت في مرقب والليل ممسيني |
بديار غرب (ن) لعل السيل ماجاها |
أضحك مع اللي ضحك والهم طاويني |
طية شنون الطلب لا سربوا ماها |
هبت هبوب الشمال وبردها شيني |
ما تدفي النار لو حنا شعلناها |
وهنالك قول لشاعر، لم يذكر اسمه، يصف معاناته من تكاليف الزراعة وشح الماء: |
وجدي عليها وجد من زارع عين |
متحمل (ن) من دينها يبحث القاع |
عين (ن) سوانيها ثمان وثلاثين |
غير اللوازي عشر يا وي زراع |
يوم افرحوا فيها وراحو مريحين |
تنشي بغربي (ن) من الغرب لماع |
جاها البرد صل (ن) سوات المحاقين |
خذ البرد يومين بالزرع ما ماع |
خذو سوانيهم وراحو معيفين |
لا حصلو مد (ن) ولا حصلو صاع |
وفي مجال الجغرافيا البشرية، الاجتماعية على وجه الخصوص، فكان للشعر نصيب لا بأس به منها، ودواوين الشعر حافلة بوصف التنقل والترحال بين البلدان وما يرتبط بذلك من أمور وجدانية عاطفية. ومن أجمل ما قيل للشاعر سليمان الهويدي، الذي نلمس في أبياته أموراً اجتماعية واقتصادية متعددة بتعدد ألوان الطيف: |
عشقت القمر حيث القمر ينبعث نوره |
واخص الليالي البيض تزهاه ويزهنه |
واحب الهوى لا هب من خايع ممطور |
وريح النفل حيث النفل طيب الخنه |
واحب الجماله والجماله عمل مبرور |
واحب الغناة وعز نفسي عن المنه |
واحب الصراحه والصراحه بها مسرور |
حيث أن الصراحه تقطع الشك والظنه |
واحب الكريم اللي يفرج عن المعسور |
اليا من عطى حتى أهله ما درو عنه |
احب الرجال العارفه واكره المغرور |
من اغتر في بعض المظاهر يغرنه |
سقا الله ليال ماضيه قبل هدم السور |
نحفر العد ونشرب الما من الشنه |
على الما تشوف بيوتهم كنهن القور |
كثير القبايل تعطي العد بالكنه |
على البال ذكراهم ياليت الليالي تدور |
يا ليت الليالي ما خذنه يجيبنه |
تذكرت شيبان لنا يوم حنا بزور |
يحثوننا بالطيب والفرض والسنه |
عاشو حياة قاسية في بحر وبرور |
عسى الله يعوضهم بما فات بالجنه |
لو دورن مضى من بينهم وين ذاك الدور |
زمان مضى له ذكريات يحلنه |
يوم الذهب ما يلبسونه بدون حضور |
جمال النسا ما هو من السوق يشرنه |
فقدنا حياة البدو مع شوفة المظهور |
ولا عاد به بدو ولا الطرش له حنه |
وبعد فالمحاضرة طافت بنا في أجواء جميلة، ولقد قيل (الشعر ديوان العرب)، والصحراء شحيحة الماء قليلة المطر، إلا أنها غنية بالكلمة المعبرة وبالحكمة البالغة وبالتجارب المبدعة، وفيها يتعلم مرتادها الصبر والتحمل، وليس من غيرها بل منها وحدها انطلقت خاتمة الرسالات السماوية، رسالة محمد النبي الأمي، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. |
|