Al Jazirah NewsPaper Friday  05/12/2008 G Issue 13217
الجمعة 07 ذو الحجة 1429   العدد  13217

خدمة الحرمين وضيوفهما (1-2)
د. محمد بن سعد الشويعر

 

من نعمة الله على أهل هذه البلاد، حكومة وشعباً، أن شرّفهم الله بخدمة ورعاية شؤون الحرمين الشريفين، في أقدس البقاع على الأرض، وتسهيل أمور قاصديهما، والسعي فيما يريحهم، من ديارهم حتى يقضوا مناسكهم، ومن ثم العودة إلى ديارهم سالمين غانمين.

وهي أمانة كبيرة، ومكرمة خصّ الله بها ولاة الأمر.

ورسم معالم الاهتمام، بما تحدّث عن هذه المهمة العظيمة والتشريف الذي لا يعد له فضل، الملك الباني عبد العزيز - رحمه الله - منذ دخل مكة معتمراً عام 1343هـ مع رفاق دربه؛ فقد كان يوصي بالحجاج وخدمتهم، ويحرص على تيسير شؤونهم في كل مناسبة، ولقاءات بهم، وكلماته في جمعهم خير شاهد.

ففي عام 1349هـ ألقى خطاباً - كما هي عادته - في الجلسة الافتتاحية لمجلس الشورى، وحثهم فيه على العناية في الأنظمة والقرارات التي يضعون، بتنقيح كل نظام في البلاد، بمنتهى الحرية في الرأي، وعلى الشكل الذي يكون فيه الفائدة للبلاد وقاصديها، من حجاج بيت الله الحرام؛ لأن أساس أحكام الدولة وأنظمتها التي أصّلها عند واضعي جميع الأنظمة، تقضي بمتابعة ذلك، ويؤكد هذا الاهتمام في كل وقت، بمتابعة مجلس الشورى، الذي حرص - رحمه الله - على سرعة إنشائه بأنه يجب أن يكون وفق شرع الله؛ لأنه يتابع ذلك ويؤكد هذا الاهتمام في كل موقف وفي كل مناسبة لأنه أهم هواجسه - يرحمه الله -. ونموذج ذلك:

ما جاء في كلمة أوردها محيي الدين القابسي، فيما ألّف عن الملك عبد العزيز (المصحف والسيف)، منها قوله: ولا أحتاج في هذا الموقف أن أذكركم بأن هذا البلد المقدس يتطلب النظر فيما يحفظ حقوق أهله، وما يؤمن الراحة لحجاج بيت الله الحرام؛ ولذلك فإنكم تتحملون مسؤولية عظيمة إزاء ما يعرض عليكم من النظم والمشروعات، سواء كانت تتعلق بالبلاد أو بوفود الحجاج، من حيث اتخاذ النظم التي تحفظ راحتهم، واطمئنانهم في هذا البلد المقدس (ص 59).

وفي ص 62، جاء في خطبة للملك في حج عام 1348هـ قوله: والله لا يهمني مال قارون ولا غيره، وكلّ همي هو موجه لإعلاء كلمة الله، وإعزاز المسلمين، نبقى مثابرين - أنا وأسرتي - على هذه الخطة، إلى ما شاء الله، ولن نحيد عنها قيد شعرة، بحول الله وقوته، ومن الله نسأل التوفيق والهداية.

وقد وفّى - رحمه الله - بهذا الوعد، الذي سار عليه مدة حياته واقتفى أثره بنوه كابراً بعد كابر في حماية الحرمين الشريفين وخدمتهما بالمشروعات المتزايدة في كل عام، وأبرزها توسعة الحرمين الشريفين بما لم يخطر في البال أن يكون له مثيل.

وما ذلك إلا بما وفروا للحجاج والمعتمرين من خدمات متنوعة على كثرتهم وتزايدهم عاماً بعد عام، من حيث تحقيق الأمن، وتوفير الرعاية والخدمات، وسهولة المواصلات، وما تيسره الدولة من أجل ضيوف الرحمن في تسابق من ولاة الأمر، وبتوجيه من الجميع حتى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، أعانه الله ووفقه بصدقه وحرصه ومتابعته ثم ببذله المتناهي حيث جذبهم ذلك للوفود حجة واعتماراً وزيارة، مع توافر الأمن وتيسير الأمور بما لم يعرف بمثله في الأزمات الغابرة.

فلقد بلغ عدد الحجاج في السنة الماضية أكثر من ثلاثة ملايين، زيادة عما يتوافد في بقية أشهر السنة من عمار وزوار لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأرقام تزيد على ذلك، وكأن ولاة الأمور في المملكة بما يقدمون ويوصون به لخدمة هذه الأعداد المتزايدة في جميع المرافق يرددون وبصدر رحب قول الشاعر في استقبالهم ضيوف الرحمن وفي محبة دينية:

يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا

نحن الضيوف وأنت رب المنزل

وقد كان الملك عبد العزيز، منذ ذلك التاريخ، يقود الحجيج كل عام بالإكرام والتناصح، وقد بادر بإيجاد إدارة لشؤون الحج، كما ذكر ذلك الزركلي في كتابه (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز)، قائلاً: إنه من ذلك التاريخ، كان يقود الحجيج كل عام، وقد بادر بإيجاد إدارة لشؤون الحج، وجعل من مهمة موظفي هذه الإدارة استقبال الحجاج عند وصولهم إلى البلاد براً وبحراً وجواً؛ ليهيئوا أماكن نزولهم، والعناية بحركة تنقلاتهم، وتنظيم أمورهم وفي تأدية مناسكهم إلى أن يغادروا البلاد، عائدين إلى بلادهم وأهليهم مع تقديم الخدمات الصحية والإسعافية، وإقامة مخيمات في المحطات الرئيسية لاستراحة الحجاج، ومظلات لحمايتهم من الحر والمطر.. أما فقراء الحجاج فلهم رعاية، بتهيئة أماكن لإيوائهم، عقب أداء الحج؛ حتى يسافروا إلى بلادهم في كل عام وبحسب جنسياتهم، يؤمن لهم فيها ما يحتاجونه بالمجان (ج4: ص 1335- 1340).

ويقيم الملك - رغم إمكانياته المادية الضعيفة، حيث لم يكتشف البترول بعد - في منى وفي قصره بمكة احتفالات عامة لكبار الشخصيات القادمة للحج من كل جنسية ويحتفي بهم، ويستمع إلى مرئياتهم، ويتناقشون في أمور عديدة، وكانت أعماله واهتماماته بضيوف الحرمين وبالحرمين الشريفين والمشاعر دائبة، ومتابعاته للشؤون العامة وأحوال المسلمين منهجاً سار عليه بنوه بعده، اهتماماً ومحافظة وتفقداً، ثم تحسيناً في الخدمات التي تريح الحجاج؛ من أجل العمل والمتابعة، رحمه الله ومن مات من أبنائه، ووفّق من بقي للخير الذي يسير عليه محبة واحتذاء.

إذ خلال 86 عاماً مضت يتراءى من أمام القادمين حجاً أو عمرة أو زيارة أعمال ومشروعات كبيرة ومتجددة تتحدث عن أنفسها، كلها سخرت من أجل راحة وهدوء ضيوف بيت الله الحرام؛ رغبة فيما عند الله وشرفاً بخدمة الوافدين. يرافق هذا منذ تسلل القيادة، ما يبرزون من أعمال متواصلة تريح كل وافد تذكر وتشكر، وبدون مَنّ أو رغبة الإعانة من أحد؛ فقد علم الله سبحانه صدق النية والإخلاص في العمل، فأفاء من فضله سبحانه بركات من السماء والأرض، فسخرت في إعمار الحرمين خدمة للإسلام والمسلمين وتيسير أعمالهم عندما يفدون لأداء مناسكهم وفق ما قال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وتبييناً لهم بالسير في أداء شعائرهم على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال: (خذوا عني مناسككم)؛ ولذا حرص العلماء على أداء هذه الأمانة، وتبليغ ما أعطاهم الله من علم ومن فقه مع ضيوف الرحمن، نموذج ذلك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله، الذي كان ينشر هو والعلماء نصائحهم للحجاج وللمسلمين في كل مكان، فتاوى وكلمات ونصائح.. ونورد نموذجاً واحداً من نصائحه الموجهة للحجاج، يبصرهم فيها بدينهم ومناسك حجهم، وما يجب أن يعملوه في كل مشهد من المشاهد، ما يجب عمله في كل يوم؛ تذكيراً للعامة وتوعية للجاهل، مع توزيع كتابه صغير الحجم عظيم الفائدة (التحقيق والإيضاح) الذي يشمل أعمال الحج والعمرة وآداب الزيارة بلغات عديدة، ترجم لها، مترسماً فيه خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكي يعودوا لبلادهم مع الفوز بقضاء الحج وإتمام المناسك، بعلم يفيد من وراءهم، تحقيقاً لقول الله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (122) سورة التوبة.

يقول - رحمه الله - في واحدة من نصائحه وتوجيهاته لحجاج بيت الله الحرام: من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى ضيوف الرحمن، حجاج بيت الله الحرام.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فيطيب لي أن أرحب بكم على هذه الأرض المقدسة التي جعلها الله قبلة للمسلمين ومثابة للناس وأمناً، وأهنئكم بتوفيق الله لكم لأداء مناسك الحج والعمرة تلبية لدعوته واستجابة لأمره، حيث يقول جل شأنه: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } (97) سورة آل عمران. ويقول: {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ} (196) سورة البقرة.

وإني إذ أرحب بكم نيابة عن حكومة جلالة الملك وسمو ولي عهده أحب أن أشير إلى أن هناك جهوداً كبيرة تبذلها هذه الحكومة الرشيدة في سبيل خدمة ضيوف الرحمن، وفي مقدمتها تجنيد مجموعة كبيرة من الدعاة والمترجمين بأغلب لغات المسلمين؛ لتعليم وتوجيه الحجاج وتبصيرهم بأمور دينهم وحجهم في أماكن تجمعاتهم؛ حتى يكونوا على بينة منها، عملاً بقوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف.

ونصيحتي لنفسي ولإخواني الحجاج والمسلمين في كل مكان:

أولاً: أن يخلصوا أعمالهم وحجهم لله ربهم، فإن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم، {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَِ}(5) سورة البينة.

ويقول سبحانه: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصٌُ}(3) سورة الزمر.

(للحديث صلة)

بعض مواقف الرجال:

كان عروة بن الزبير من أفضل التابعين، وعلمائهم، أخذ العلم عن خالته، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وقد ابتُلي فصبر، فقد خرج إلى الوليد بن عبد الملك بالشام، فلما كان بوادي القرى وجد في رجله شيئاً فظهرت به قرحة، ثم ترقى به الوجع، وقدم على الوليد، وهو في محمل، فقال: يا أبا عبد الله اقطعها، قال: دونك، فدعا له الطبيب، وقال: اشرب المرقد، فلم يفعل، فقطعها من نصف الساق فما زاد أن يقول: حسن، حسن. فقال الوليد: ما رأيت شيخاً قط أصبر من هذا. وأصيب عروة بابنه محمد في ذلك السفر، رمحته بغلة في اصطبل فمات، فلم يسمع منه في ذلك كلمة، فلما كان في وادي القرى، راجعاً من الشام، قال: {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (62) سورة الكهف، اللهم كان لي بنون سبعة، فأخذت واحداً وأبقيت لي ستة، وكان لي أطراف أربعة، فأخذت طرفاً وأبقيت لي ثلاثة، ولئن ابتليت لقد عافيت، ولئن أخذت فقد أبقيت. وقد حدّث الأصمعي عن أبي الزناد عن أبيه قال: اجتمع في الحجر - بالحرم - مصعب وعبد الله وعروة، بنو الزبير، وابن عمر فقالوا: تمنوا فقال عبد الله: أما أنا فأتمنى الخلافة، وقال عروة: أتمنى أن يؤخذ عني العلم، وقال مصعب: أما أنا فأتمنى إمرة العراق، والجمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين، وهما أجمل نساء قريش، وأما ابن عمر فقال: أتمنى المغفرة. فقالوا، تمنوا، ولعل ابن عمر قد غفر له.

وقال ابن خلكان: أحسن من عزّاه في مصيبته بقطع رجله إبراهيم بن محمد بن طلحة فقال: والله ما بك حاجة إلى المشي ولا أرب في السعي، وقد تقدمك عضو من أعضائك، وابن من أبنائك إلى الجنة، والكل تبع البعض، إن شاء الله. ولقد أبقى الله لنا منك ما كنا إليه فقراء: من علمك ورأيك، والله ولي ثوابك، والضمين بحسابك. قال ابن سعد في طبقاته: كان عروة ثبتاً، مأموناً كثير الحديث، فقيها عالماً، ولم يدخل في شيء من الفتن.

وروى عنه ابنه هشام أنه قال: رب كلمة ذل احتملتها، أورثتني عزاً طويلاً. أما ابن شهاب فيقول: كان إذا حدثني عروة، ثم حدثتني عمرة، صدّق عندي حديث عمرة، حديث عروة، فلما تبحرتهما إذا عروة في علمه، بحر لا ينزف.

(سير أعلام النبلاء للذهبي 4: 421 - 437)

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد