الباحثون في حقل المعرفة الاقتصادية يكونون العديد من النظريات من خلال الرصد والمتابعة والملاحظة للظواهر المختلفة كما هو الحال في بقية العلوم الاجتماعية الأخرى، فهذا آدم سميث يتوصل لنظريته الشهيرة في تقسيم العمل بمشاهدة حداد في أحد الأسواق يقوم بكافة خطوات العمل دون الاعتماد على أشخاص آخرين مما يؤثر سلباً على مستويات الإنتاج، ولقد أشار سميث في كتابه ذائع الصيت (ثروة الأمم) إلى أن تقسيم العمل والتخصص يؤديان إلى رفع الإنتاجية الفردية ومن ثم زيادة كمية الإنتاج الإجمالي.
عادة ما تُعرف النظرية إما بالشخص المكتشف مثل نظريات سميث وريكاردو في حقل التجارة الدولية وهنري جورج وتايبوت في اقتصاديات القطاع العام أو تُسمى النظريات الاقتصادية أيضاً بالمكان الذي حدثت فيه المشكلة أو بطبيعة العلاقة فيما بين المتغيرات المختلفة فلدينا قانون الذرة في بريطانيا وأطروحات المدرسة التجارية فيما يتعلق بحركة الكشوف الجغرافية واستغلال المستعمرات في منتصف القرن الثامن عشر.
تأتي مشكلة (تراجيديا العموم) (the Tragedy of the Commons) في هذا الصدد لتصف أحد التحديات التي تواجه النظام الاقتصادي من خلال تضارب سلوك الأفراد في استغلال الموارد والسلع العامة الذي سوف يؤدي بالضرورة إلى نتائج تعارض المصالح العامة في ظل غياب الأنظمة والتشريعات التي قد تحد من انتهازية سلوك الأفراد وتحافظ على المصالح العامة.
في هذه العجالة نستعرض ماهية تراجيديا العموم وخلفيتها وانعكاساتها النظرية على العلاقات والسلوك الإنساني بشكل عام ونتطرق لبعض الأمثلة والتطبيقات من واقع الاقتصاد السعودي.
تأتي تراجيديا العموم كرد نظري على فرضية (اليد الخفية) التي تقول بأن الفرد يعمل نحو المصلحة العامة إذا قام بتعظيم منفعته الخاصة فالمزارع الذي يقوم باختيار أفضل البذور التي تدر محصولاً وفيراً ويستخدم أساليب زراعية تقلص تكاليف الإنتاج وفي المحصلة النهائية يقدم منتجات ذات جودة عالية وأسعار رخيصة للسوق تؤكد على حصته في السوق وتضمن هامشاً ربحياً معقولاً وكذلك رجل الصناعة الذي يقوم بالاستغلال الأمثل للموارد المتاحة بما في ذلك الموارد البشرية، كل أولئك يعملون نحو المصلحة العامة على الرغم من كونهم ظاهرياً يعظمون أرباحهم الشخصية.
إلا أن هذا السيناريو الوردي والجميل قد يعطي نتائج عكسية في حال السلع العامة ووجود الوفورات الخارجية التي تؤدي إلى تضارب المصالح الفردية ومن ثم حدوث كوارث وأزمات اقتصادية تعصف بالمجتمعات وقد تقود إلى فنائها، فلقد بقيت كارثة (جزر الايستر) مثالاً حياً يسوقه علماء الانثروبولوجيا والاقتصاد على تنافس الوحدات الاقتصادية في استغلال الموارد الاقتصادية المحدودة مما يؤول إلى نضوب تلك الموارد ومن ثم انعدام الحياة.
نظرية (تراجيديا العموم) تساهم في بناء الفهم نفسه المتعلق بالتأثير المتبادل للسلوك الإنساني فيما يتعلق بسوء استغلال السلع العامة في (تسابق نحو الهاوية) كما يصفه علماء السلوك، وتفصيلات القصة هي أن هناك إحدى القرى القديمة لديها أرض مشاعة وكانت بها أزهار وزروع طبيعية وجداول مياه وأشجار باسقة يتنزه فيها الناس وتعقد بها مراسيم وحفلات الزواج. نظراً لغياب الضوابط والتشريعات التي تقنن الاستخدام الأمثل لتلك المنطقة المشاعة أصبح أصحاب المواشي يأتون بحيواناتهم للرعي مما أدى إلى هلاك زرعها ونضوب جداولها وقطع أشجارها وتدميرها تماماً بحيث أصبحت أرضاً جرداء يتجنبها الناس الذين كانوا يستمتعون بجمال طبيعتها.
أصبح الاقتصاديون يطلقون ذلك المصطلح على مصير السلع العامة التي تواجه الاستغلال الجائر ومن ثم تردّي نوعيتها وكميتها المتاحة لبقية المستهلكين الحاليين والمستقبليين مثل رعي المساحات الخضراء وقطع أشجار الغابات وصيد الحيوانات البرية والأسماك واستنفاذ الموارد المائية والثروات الطبيعية، لكن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد بل يمتد للوفورات الخارجية السلبية التي قد يسببها سلوك الأفراد المستغل على بقية المجتمع.
تلوث البيئة على سبيل المثال هو أحد تطبيقات هذه النظرية حيث إن الانعكاسات الخطيرة المتوقعة لا تقتصر فقط على الطرف الملوث بل تمتد لبقية أفراد المجتمع خصوصاً في ظل غياب القوانين التي قد تردع هذا السلوك السلبي ومن ثم تحد من التلويث المتعمد للهواء والمياه، لكن حماية البيئة يكون ممكناً في حال وجود بيئة قانونية ونظامية تحث على احترام البيئة من خلال إزالة جميع النفايات والسموم والأبخرة الملوثة وإلزام المنتج بتبني تقنيات إنتاجية نظيفة لكنها مكلفة.
إن تطبيقات نظرية تراجيديا العموم لا تنتهي عند هذا الحد، بل ان هناك أمثلة كثيرة لمشكلات اقتصادية عويصة هي نتيجة طبيعية لسلوك الأفراد المستغل الذي قد يدمر كل شيء ما لم تضع له ضوابط رادعة تدفعه نحو بذل الجهود في تعظيم المردود المادي الشخصي وفي نفس الوقت العمل نحو المصلحة المجتمعية.
لعل من الأمثلة الناصعة على بعض تطبيقات تلك النظرية هي إغراق اقتصادنا بعمالة أجنبية تفوق الاحتياج نظراً لسوء استغلال نظام كفالة العمال الأجانب الذي يضمن ريعاً هائلاً من خلال بيع تأشيرات العمل وفرض إتاوات دورية من قبل (رب العمل) دون وجه حق مما تسبب في جلب عمالة بسيطة التأهيل شكّلت عبئاً ثقيلاً على اقتصادنا الوطني.
أما المثال الآخر فهو استباحة المال العام الذي مع الأسف الشديد لا يجد من يدافع عنه ويردع السلوك المستغل من قبل القائمين عليه والمتذرعين بخدمة المصالح العامة والتي أصبحت غطاء للرغبات الفردية وترتب عليها انهيار الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم على الرغم من الميزانيات السنوية الضخمة التي تُرصد لتلك القطاعات.
إن حل هذه المشكلة يكمن في ليس فقط سن الأنظمة والتشريعات بل وفي تطبيقها دون استثناء، وفي هذا الصدد يقول الرئيس الأمريكي الأسبق جون آدمز: (الحكومة تُبنى على الأنظمة والتشريعات وليس على الأفراد).
إن السبب في استفحال مشكلة (تراجيديا العموم) في البلدان النامية هو غياب التشريعات وقصور تطبيقها وفي الوقت نفسه افتراض (ملائكية) الأشخاص ولكن أليس المنطق يقول إنه (إذا كان الأفراد ملائكة، فلا حاجة إذن للحكومة).
أستاذ الاقتصاد المساعد- معهد الدراسات الدبلوماسية
mqahtani@ids.gov.sa