ما أجمل أن نحتفي بالصوت الهادئ الداعي إلى الحوار من أجل تغليب المصالح ودرء المفاسد، بعيداً عن لغة التخوين والتفسيق والتكفير، فتلك أسلحة ضعيفة، ولا سيما أن ديننا هو دين الحوار، وهو من أيد الحوار المستمر مع الآخر، لتحقيق التفاهم والتعاون في مختلف مجالات.....
....الحياة فقدم للبشرية أنموذجاً رائعاً في التعايش والمحبة لا يمكن أن ينكره أحد. كما أن الحوار الهادئ يمثل رؤية جديدة لتقريب شعوب العالم على مختلف دياناتهم، ويمثل مفتاحا من مفاتيح الاستقرار لمجتمعاتنا.
تداعت لي تلك الرؤى، وأنا أقرأ بيانا لأحد عشر كاتبا وناشطا غالبيتهم من السعوديين، دعوا إلى مراجعات فكرية لأركان أساسية في المعتقدات الشيعية. تضمنت دعوة إلى ما وصف بتصحيح مسار الطائفة الشيعية، فأحدث البيان جدلا محتدما وفاعلا بطبيعة الحال، خصوصا فيما يتعلق بنظرية ولاية الفقيه، وإعلانهم رفضهم نظام المرجعية والتقليد، وإعطاء الخُمس لرجال الدين، وممارسات التطبير والدق على الصدور وضرب الظهر بسلاسل حديدية في طقوس عاشوراء.
وطالب موقعو البيان أبناء الشيعة العرب بالعمل الجاد لإنشاء مؤسسات ومرجعيات دينية وطنية في كل البلدان العربية التي يوجود فيها الشيعة، لتسهم في بناء أوطانها وترسيخ دعائم هويتها ووحدتها الوطنية. وهو ما ذكره أحد موقعي البيان - الكاتب والناشط الحقوقي السعودي - نذير الماجد: من أن الإصلاح لا يؤتي ثماره إلا بإصلاح داخلي، وأن حالة التشاحن الطائفي لا يمكن تجاوزها إلا بإصلاح البنى اللاهوتية والعقائدية التي تعمق هذا الشرخ. وأن بعض الاتجاهات والعناوين في الفكر الشيعي تتجه تلقائيا بشكل خاطئ لأنها مبنية على فكر طائفي. هناك كراهية توجه للآخر من ناحية فقهية وعقائدية، نسعى لتصحيح هذا عبر المصالحة مع الذات.
صحيح أن اتفاق كلمة المسلمين ووحدة صفهم وعدم تفرقهم في أصول الدين مطلب مهم، فالوحدة تكون على كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا على حساب كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولن يتم ذلك إلا بنقد الذات وإجراء المراجعات وتقديم المبادرات للخروج من أزمة التاريخ الممتدة بين الشيعة والسنة منذ أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.
هناك مؤشرات إيجابية يمكن قراءتها في البيان، لعل من أهمها: أن مفردات البيان كانت جميلة، لأنها نحتت في رواسب متعفنة، وحفرت في صخور بالية. إلا أن أجمل ما في البيان، هو: التأكيد على رفض قذف الخلفاء الثلاثة السابقين على الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - إذ إن قذفهم أمر لا جدوى منه ولا خير فيه، ومدعاة للفرقة والانشقاق. والمطالبة بتجاوز كل عبارات الشتم والسباب واللعن الواردة ضدهم في التراث الشيعي. وذلك باعتبارهم رموزا تاريخية محترمة عند معظم المسلمين.
إن عدالة الصحابة عند أهل السنة من مسائل العقيدة القطعية، أو مما هو معلوم من الدين بالضرورة. بل إن الله زكى ظاهرهم وباطنهم، ورضي عنهم وتاب عليهم ووعدهم بالحسنى، وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بإكرامهم ومحبتهم وحفظ حقوقهم، وأمرنا بالاستغفار لهم ونهينا عن سبهم وبغضهم. فقرنهم خير القرون، وهم من قام الإسلام على أكتافهم، ولم يصل إلينا إلا عن طريقهم، وهم الذين مدحهم الله في القرآن وأثنى عليهم، فقال الله - تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَضي اللهُ عنهمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
وقد ذهب جمهور العلماء - رحمهم الله - إلى: أن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل لمشاهدة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أما من اتفق له الذب عنه والسبق إليه بالهجرة، أو النصرة، أو ضبط الشرع المتلقى عنه وتبليغه لمن بعده، فإنه لا يعدله أحد ممن يأتي بعده، لأنه ما من خصلة إلا وللذي سبق بها مثل أجر من عمل بها من بعده فظهر فضلهم.
أهم ما يمكن إضافته في ما تبقى من مساحة هو: أن العقول العظيمة تناقش الأفكار، وتحرض على التفكير، فالمبادرات هي طريق المستقبل، والتغيير سنة الحياة، ولكن من دون الحاجة للاصطدام مع الآخرين. وسيكون من المهم إخراج الحوار إلى العلن على الرغم من حساسية الموضوع، ليكون مؤشراً مهما للمساهمة في بناء الأوطان، وترسيخ الوحدة الوطنية بطريقة متصالحة لا تستفز الآخرين، ولا تثير الخلافات والأزمات المتلاحقة بين الجانبين مستقبلاً. كما أن الحوار وفق كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتشجيع على الفهم والإقناع بشكل متدرج وبث قيم التسامح والموقف من الاختلاف والرأي الآخر، ومنح الوقت الكافي، هو مطلب مهم من أجل التلاقي حول أسس اشد متانة.
drsaq@gamil.com