قبل أسبوع عُدت إلى الوطن العزيز - والعوْد أحمد - بعد أن ألقيت محاضرة في جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، وكنت عازماً على الحديث عن ذهابي إلى هناك، وعما قمت به وشاهدته، لكني وجد تنفسي غير قادر على إرجاء التحدُّث عن أحداث
فرضت نفسها على وسائل الإعلام المختلفة، فأجَّلت الحديث عما كنت عازماً على الحديث عنه إلى مقالة قادمة إن شاء الله، ومن هذه الأحداث التي فرضت نفسها على وسائل الإعلام مرور عام على تجميع من جُمِّعوا في أنابوليس، وما نتج عن ذلك التجميع حتى الآن.
وكنت قد كتبت مقالة من أربع حلقات قبيل حدوث ذلك التجميع عنوانها: (ماذا يُرجى من تجميع الخريف؟)، وفي الحلقة الأولى من تلك المقالة أشرت باختصار إلى المدلول اللغوي لكلمة (الخريف) وتساقط أوراق الشجر في فصله، واستعمال عبارة (سقطت ورقة التوت) للتحدُّث عن اكتشاف خزيٍ مستور، وأشرت إلى أنَّ من الزعماء، الذين ابتليت بهم أمتنا، من ليس على عوراتهم أوراق توت حتى يُشار إلى سقوطها، وقلت في تلك الحلقة: إن شهر نوفمبر بالذات هو الشهر الذي صدر فيه إعلان بلفور الواعد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وذلك قبل تسعين عاماً، وأشرت إلى دعم الإدارات الأمريكية المتعاقبة للصهاينة من اليهود حتى إقامة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، كما أشرت إلى محاولة الإدارة الأمريكية الحالية أمركة منطقتنا تحت اسم (مشروع الشرق الأوسط الكبير)، وتساءلت عما يُرجى من حدثٍ تُعده تلك الإدارة المتصهينة وترسم - بالاتفاق التام مع قادة الكيان الصهيوني - المجالات التي سوف يسير وفقها من جُمِّعوا فيه؟
ومما أشرت إليه في الحلقة الثانية من المقالة المذكورة استمرار الإدارات الأمريكية المتعاقبة في دعمها غير المحدود للصهاينة بما في ذلك إدارة بوش الأب، التي ذكر وزير خارجيته، بيكر، أنها قدَّمت للكيان الصهيوني من الخدمات الجليلة ما لم تقدِّمها إدارة أمريكية قبلها، ومن تلك الخدمات جمعها زعماء العرب مع القادة الصهاينة في مؤتمر مدريد، الذي انعقد على أساس الأرض مقابل السلام، وهو المؤتمر الذي أبرمت من وراء ظهور أعضاء الوفد الفلسطيني إليه اتفاقية أوسلو بين الكيان الصهيوني والسلطة الفلسطينية، وكان من نتائج مؤتمر مدريد وتلك الاتفاقية المزيد من تنازلات قادة العرب - إلا من ندر - عن الحقوق، وتطبيع بعضهم العلاقات مع الكيان الصهيوني المحتل.
ومما تضمَّنته الحلقة الثالثة الإشارة إلى اتضاح أن مؤتمر مدريد كان محطة قادت إلى محادثات متوالية لم تؤد إلا إلى مزيد من تنازلات الزعامات العربية عن حقوق مهمّة، ومزيد من التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، أما الحلقة الرابعة - وهي الأخيرة - من تلك المقالة فمما أشير إليه فيها ما حدث في لقاء شرم الشيخ برعاية الرئيس كلينتون من وعود أمريكية - كالعادة - لم تُنفذ، وما يراه كُتَّاب بينهم غربيون من أن ما تُرتِّب له أمريكا في أنابوليس لن يؤدي إلى مصلحة الفلسطينيين بالذات، وكان أن اختتمت تلك المقالة بما يأتي:
(إن كاتب هذه السطور لا يرى من تأمُّله في أحداث الماضي من الأيام وأحداث ما هو حاضر منها فائدة مرجوة من ذلك الذي يُرتَّب لحدوثه في أنابوليس، وكم سيسعد لو اتَّضح أن رأيه غير صحيح، وما دام لا يرى ما يُرجى فيه فإنه يضع يده على قلبه خوفاً مما يخشى).
وانقاد من انقاد من زعماء العرب لحضور أنابوليس طوعاً أو على مضض، فكان ما حدث هناك ينطبق عليه المثل الشعبي القائل: (الليلة الظلما تبيِّن من عشاه).. هناك كان مما قاله الرئيس الأمريكي للحاضرين تثبيته يهودية دولة إسرائيل، وفي هذا ما فيه من دلالات قد يستفيد منها الصهاينة في يوم من الأيام إذا رأوا الوقت مناسباً للإقدام على ما يُسمى بالترانسفير بحيث يبعد العرب عن الأراضي التي احتلت عام 1948م.. وكان من نتائج ذلك التجميع الأنابوليسي أن شكَّل ما سُمِّي بالرباعية للعناية بما تُوصِّل إليه، وعُيِّن منسقاً لها السيد بلير، رئيس وزراء بريطانيا السابق.. ولا أظن أحداً يجهل أن هذا الرجل غير مؤهل للقيام بأيّ دور إيجابي محايد في مسائل خلاف بين الصهاينة والعرب إلا إذا كان يُوجد من يجهل أن الإدارة الأمريكية تختلف موقفاً عدائياً لأمتنا عن موقف زعماء الكيان الصهيوني، وكل العالم يعلمون أن السيد بلير كذَّب على الناس - بمن فيهم شعبه بادعائه أن العراق كانت تمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه كان السبَّاق في مشاركة الرئيس بوش بارتكاب العدوان على بلاد الرافدين واحتلالها، وإذا كانت دولته هي التي مهدت تاريخياً السبيل لاغتصاب الصهاينة لفلسطين، وكان موقفه العدائي لأمتنا بمثل هذا الوضوع، فإنه لم يكن غريباً أن عُهد إليه بما عُهد، وبخاصة أن إدارة بوش هي القادرة على إملاء ما تريد.
ماذا حدث بعد عام من حدث أنابوليس؟
قبل ما يقرب من ثلاثة أسابيع عُقد مؤتمر صحفي أثنى فيه بلير على نتائج ذلك الحدث الأنابوليسي، وكان أن خطر ببالي عند استماعي إليه مثل شعبي كثيراً ما ردَّده الناس عند سماعهم شهادة زور بينها وبين الصدق ما بين السماء والأرض، ومما اصطلح عليه أهل اللغة أن الأمثال لا تُغيَّر مهما كانت عبارتها، وذلك المثل هو: (قال من شاهدك يا أبا الحصين؟ قال: ذنبي).. وأبو الحصين - كما هو متداول - هو الثعلب، والحقيقة أن المثل ينطبق على السيد بلير تمام الانطباق، فهو تابع للسيد بوش كل التبعية وكانت تبعية قادة بريطانيا - منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل - لزعامات أمريكا مما أدركه الكثيرون، وفي طليعة هؤلاء الرئيس الفرنسي ديجول، الذي صرَّح مراراً وتكراراً بأن بريطانيا ليست أوروبية، بل تابعة تبعية عضوية لأمريكا، ولذلك عارض انضمامها إلى السوق الأوروبية المشتركة موضحاً أنها لو قُبلت في السوق لكانت تمثل أمريكا، لا دولة أوروبية، ولم يُسمح لها بالانضمام إلى السوق المُشار إليها إلا بعد نهاية رئاسته لفرنسا.
أعود لأقول: وصْف بلير نتائج أنابوليس بأنها إيجابية وصفٌ صحيح، إذ مراده بتلك النتائج ما تحقَّق للكيان الصهيوني من مكاسب.. وهذا هو ما تريده زعامة أمريكا وما يثلج صدره وأمثاله من المشاركين لها في ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، وبخاصة أمتنا، عربية ومسلمة، ولا أظن عدواً لهذه الأمة، مثل بلير، إلا ويسرُّه ما يتحقق من نجاح للكيان الصهيوني والداعمين له من المتصهينين، نجاح هذا الكيان، الذي ثبَّت يهوديته في أنابوليس رئيس الإدارة الأمريكية على مسمع من جمعوا فيه من العرب، أوضحه بالأرقام الإحصائية الباحث السياسي المعروف، مصطفى البرغوثي، في محاضرة له قبل أسبوع، ومما ورد في محاضرته ما يأتي:
في خلال عام بعد أنابوليس زاد عدد الضحايا من المقاومين والمدنيين الفلسطينيين، رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً، زيادة كبيرة، وتضاعفت أعداد الجرحى، كما تضاعفت أعداد المعتقلين، ولقد أفرج عن أعداد من معتلقين، بعضهم انتهت المدة المقررة لبقائه سجيناً، أو كادت تنتهي، وأكثرهم كان سجنهم تعسفياً لمسائل هامشية.
لكن من أودعوا السجون - خلال العام - يفوق كثيراً من أخرجوا منها، أما المستعمرات (المستوطنات) المبنية في الضفة العربية عموماً وفي منطقة القدس خصوصاً فازدادت أعدادها أضعافاً مضاعفة بدلاً من توقفها أو إزالتها، وأصبحت تلوح في الأفق نذر القضاء على كل ما هو عربي وإسلامي في القدس بما في ذلك المسجد الأقصى.
وما حدث في الأيام الأخيرة لتلك الأسرة الفلسطينية، التي أخرجت من منزلها فجراً وهي تدفع زوجها المُقعد بعربة كرسي، وتسليم ذلك المنزل إلى أسرة صهيونية، مثل من أمثلة تلك النذر، ولا تسل عما ارتكب، ويُرتكب، ضد أهل غزة.
فالمشاهد في كل وسائل الإعلام تجيب عن أي سؤال، ولا تسل، أيضاً عما إذا كان قد بقيت ذرة من كرامة أو حياء لدى أكثر زعامات أمتنا.
فلقد ترحَّمت على الكرامة بينهم في مقالة نشرتها في صحيفة الوطن بتاريخ 25-1- 1423هـ، وترحَّمت على الحياء في مقالة نشرتها في صحيفة الجزيرة بتاريخ 7-3- 1425هـ.
الله - عزَّ وجل - قادر على بعث من في القبور، فهل تبعث الكرامة والحياء لدى أولئك الزعماء من جديد؟