بعد نشر الجزء الأول من مقالتي (لا تهوِّلوا الأمر.. لن تسقط الرأسمالية) أتتني مكالمة من صديق، يقول: الله أكبر، أصبحت رأسمالياً يا عبد الرحمن؟ فرددت عليه: هل أنت متأكد من استنتاجك؟ وقد وردني من يعارض ومن يؤيد رأسماليتي المزعومة.....
.....لم يحدث أن قمت بالرد على التعليقات أو التعقيبات على مقالاتي، لأنني من الذين يعتقدون أن تلك مهمة المقالة نفسها، ومن ثم تبقى المهمة للمؤيدين والمعارضين.. ولكن كسرتُ القاعدة من أجل يراع الأستاذ محمد عيسى الكنعان، فهذا الكاتب له سنين عديدة وهو مثابر بالمتابعة والتعليقات والردود في المشهد الثقافي السعودي، وقد علَّق على مقالاتي مرات لا أذكرها، كان في جميعها منضبط المنهجية، وموضوعيا مع طريقة تفكيره.. فله سابق الفضل وجزيل الشكر.. وقد قام الأستاذ الكنعان في يوم الأربعاء الفائت بالتعقيب وتفنيد مقالتي بطريقة موضوعية ممتازة، على الرغم من أني أختلف مع كثير مما جاء فيها.
كما أن الأستاذ الكنعان لخص بطريقة رائعة ما يمكن أن أعتبره إجمالي أفكار المعارضين لمقالتي، بل ولخص مقالتي بطريقة جميلة، فاحتراماً لجهده الدؤوب قررت أن أدخل معه في نقد تفنيده.. حيث أوضح في تلخيصه أني أؤكد أن القول بسقوط الرأسمالية مجرد (وهم)، وأنني قطعت بالنفي الجازم أن الرأسمالية (لن تسقط) وأن الأزمة المالية الحالية التي ضربت النظام المصرفي الأمريكي وارتدت على البورصات العالمية ليست جديدة على الرأسمالية، لأن الأزمات الاقتصادية ظاهرة ملازمة لها ومندمجة مع الحركة الدورية المتأصلة في اقتصاد المؤسسات والأسواق الحرة وهي حركات تصحيح دورية للأفضل، باختصار.. إنني أرى أن الأزمة المالية العالمية دليل قوة الرأسمالية لأنها تجدد نفسها من خلالها، والقول بسقوطها تهويل للأمر، وجهل فاضح بها وبتاريخها وطريقة أدائها.
في بداية تفنيده مقالتي يذكر الكنعان أنه في حمأة الدفاع الفكري عن الرأسمالية فاتني ثلاث مسائل مهمة: (أولها أنه قال (لن تسقط) الرأسمالية.. وهذا استشراف (غير واعٍ) للمستقبل، لأنه قطع أمرا في مسألة غيبية لا يعلمها إلا الله.. الخ). وأنا هنا أختلف في نقطتين رئيسيتين. الأولى أن مقالتي لم تقطع بالنفي الجازم، بل نقلت عن مفكرين رأسماليين يقطعون بالنفي، فهناك فرق أن أتبنى الفكرة أو أنقلها.. ولم أطرح وجهة نظري الشخصية إلا في النهاية عندما ذكرت احتمال سقوط الرأسمالية أو بقائها، بأن ذكرت: (وبين هذين الاحتمالين بقيت الرأسمالية تنمو طوال مائتي عام دون أن تشيخ..) وهذا وصف حقيقي فعلي تم على أرض الواقع، وليست وجهة نظر.
صحيح يا سيدي عيسى، أنني قلت: لن تسقط الرأسمالية.. ولكن ما هي العبارة التي قبلها، إنها (لا تهوِّلوا الأمر).. وما هو هذا الأمر، إنه الأزمة التي نتحدث عنها.. إذن المقصود أن الرأسمالية لن تسقط نتيجة هذه الأزمة، أي الكلام عن المستقبل القريب جداً، وفقاً لتوقعاتي.. وليس من المعقول أن أدعي عدم إمكانية سقوط الرأسمالية في المستقبل عموما المتوسط أو البعيد، حتى أكبر المتعصبين الرأسماليين لم يكن ليجرؤ هذه الأيام على مثل هذا القول.
وهنا أنتقل إلى مسألة مهمة للأخ الكنعان ولكل من ظن أنني أتبنى الفكر الرأسمالي، وهي مسألة الدفاع عن فكرة ما لتوضيحها وليس للتبشير بها. فأرى أنه يمكنني أن أدافع عن حق مذنب في إجراء محاكمة عادلة وحقه في الحصول على محام، وحقه في الاستئناف أو في طلب تخفيف حكم العقوبة، وحقه في أن لا تهدر كرامته.. الخ، فهذا المذنب له ما للبريء في هذه الحقوق.. ولكن ذلك لا يعني موافقته المذنب على ذنبه ولا إفلاته من العقوبة.
لقد كتب العديد من الكتاب، وأنا واحد منهم، بأن أهم مبادئ الرأسمالية قد سقط بتدخل الحكومة الفدرالية الأمريكية بهذا المقدار الهائل مما أودى بحرية السوق، وقد أشرت إلى ذلك في الجزأين لمقالتي التي سبقت هذا المقالة التي نتحدث عنها هنا.. ولكني لاحظت تتالي الهجوم على الرأسمالية اليمينية دون توضيح أي جانب إيجابي بها، وكأنها شر مطلق.. ولم تُنقل آراء المدافعين عنها إلا للهجوم عليها والانقضاض على أفكارها.
في ظل هذه الأجواء من الهجوم المحموم الذي تحول إلى عواطف مشحونة ضد كل ما هو رأسمالي، وتحوله في بعض الأحيان إلى طريقة لا عقلانية ولا منهجية، رأيت أن ذلك لا يستقيم مع الموضوعية، ورأيت أن أضع الإيجابيات والسلبيات أمام القارئ، وأن أعطي حيزا أكبر للإيجابيات، ومجالا أوسع لأفكار المدافعين عن الرأسمالية اليمينية نظراً لحجب أصواتهم في أكثر المواقع.. إذن الغرض من بعض الميل للجانب الرأسمالي كان إجرائيا لعمل توازن مع ضراوة الهجوم، بهدف خدمة الموضوعية وإضاءة الفكر لكي يرى جوانب المسألة التي لم يرها.
المسألة الثانية التي ينتقدها الأخ الكنعان هي: (أن الخلل الذي نشير إليه في فلسفة الرأسمالية، يقول إن النظرية تنتهي أو تسقط عند الإخلال بأحد مبادئها الأساسية التي قامت عليها..) وأنا هنا أتفق مع هذا الطرح، بل طرحته في مقدمة مقالتي في جزئها الأول التي كانت عن قصة اليمين واليسار، في بداية الأزمة.
أما المسألة الثالثة، فيقول الكنعان: هي اعتبار أن الأزمات الاقتصادية للرأسمالية سمة إيجابية، لأنها تقوي النظام الرأسمالي، فالبنوك والشركات الفاشلة تسقط ويبقى الأفضل، وهذا تبرير جميل وقد يكون منطقياً لو لم يرتبط بفلسفة النظرية الرأسمالية، التي تؤكد أن مبدأ (الحرية) حقاً أولياً بما فيه حرية السوق والتملك والفردية، ضمن حقوق الإنسان تحقيقاً لسعادته ورفاهيته، فأين هذا التجميل الفكري ل(قبح الرأسمالية)، والأزمة قد عصفت بأموال الناس وأشقت الإنسان؟
أنني أؤيد هذا الطرح بالكامل، وسبق أن طرحته في مواقع ومقالات عدة، بل إن هذا الطرح نفسه هو إحدى أطروحات اللبرالية العامة (وليست اللبرالية المالية)، وذكرت ذلك بالتفصيل في مقالتي بعنوان (تقسيمات اللبرالية) بالجزيرة. والمنطق اللبرالي هنا (يسمى اليساري أو الاجتماعي أو الاشتراكي أو الإنساني..) يقول: طالما أن هدف الحرية الاقتصادية هو تحقيق المبدأ الأول لحقوق الإنسان، وان هذا المبدأ هدفه تحقيق سعادة الإنسان وكرامته ورفاهيته، فلا بد من تعديله إذا حدث أن هذا المبدأ أخل بهذا الهدف، لذلك ظهرت في الدول اللبرالية الديمقراطية مبدأ تدخل الدولة في مسألة الرقابة والحماية والتأميم، والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، وتحديد ساعات العمل والإجازات، ووضع حد أدنى للأجور، وإجبارية التعليم.. الخ.
وفي الختام أقول: إن توضيح فكرة ما، وإضاءة الجوانب الإيجابية فيها، ومنح حيز كبير للمدافعين عنها، لا يعني تبني هذه الفكرة.. وهذا موقفي من الرأسمالية.. فقد تسقط الرأسمالية اليمينية، وسأكون مرحباً بهذا السقوط إذا أتى نظام اقتصادي أكثر عدالة وإنسانية وأفضل إنتاجية وقابلية للبقاء.
alhebib@yahoo.com