Al Jazirah NewsPaper Saturday  29/11/2008 G Issue 13211
السبت 01 ذو الحجة 1429   العدد  13211

في رمضان المنصرم فنجان دم بدلا من كأس توت
د. محمد البشري

 

لا أعتقد أن ذا لب ينسى أو يتناسى فضل المؤسس - رحمه الله - على هذا البلد المعطاء، ولا أعتقد أن العقلاء يشكون أو يتشككون في مسلمة بديهية مؤداها أن أكبر نعمة أنعمها الله على هذه البلاد بعد نعمة التوحيد والدين هي نعمة التوحيد والأمن، فقد قيض الله - جل في علاه - لهذا البلد الكريم رجلا شهما كريما كتب الله على يديه لم الفرقة ونبذ العنف والتعصب ووأد الجهل والتخلف.

لقد مرت على هذه البلاد أيام مغبرة أبطالها - إن صح التعبير - أناس صنعهم الواقع المقيت وحولهم إلى وحوش في غابة، صراعات لا تنتهي، وثارات لا تنقضي، وجدوا أنفسهم مكرهين يعيشون تحت قانون - سلم - تعارفوا عليه يبنى على قاعدة (إذا لم تغز تغزى) من طباعهم النخوة ومن شمائلهم الكرم، ومن صفاتهم الشجاعة، ولكنها لا تتعدى سلم القبيلة وعادات القبائل المحيطة فهي تجير عادة في الدفاع عن الأرض أو البحث عن الكلأ أو السلب والنهب الذي سلبها أصالتها وحسن مقاصدها.

وكان الناس يعيشون في ظل هذه الحياة البئيسة ومعظمهم غير مقتنع بها، ولا راض بتصرفات أفرادها ولكن - الخوف من شماتة العربان - تجعلهم لا يخرجون عن هذا النسق فديدنهم الثأر الثأر والدم الدم.

ولا يعني ذلك أن حياتهم في حينها خاطئة خاطئة وتخلوا من القيم النبيلة والعادات الحسنة والمواقف النبيلة فالمسألة نسبية، فهناك قصص رائعة ومواقف بطولية عجيبة لا يزال الناس يرددونها ويصنعون منها الحكايات التي قد تصل أحيانا إلى حد الخرافة.

إن المؤسس بفكره الثاقب، ونظرته الحضارية الرائدة قد أدرك خطر هذا التشرذم، ووعى سوء تلك الفرقة فلم شتاتها، ونقلها من حياة تطاحن ونزاع إلى حياة علم ورخاء، وجاءت القبائل تترا تاركة وراءها ثارتها، ونابذة كل جهل وتخلف، وناسية كل موقف قد يثير غبار الماضي، وينبش القديم المقبور.

قد اندمجت القبائل وتصاهرت العشائر وأصبحوا يداً واحدة دينهم واحد ويحكمهم واحد وإطارهم المرجعي واحد، فأصبحت هذه البلاد في سنوات معدودة في مصاف الأمم المتقدمة وفي مقدمة الأمم المتحضرة شهد بذلك القريب والبعيد العدو والصديق ولا تزال هذه البلاد - بإذن الله - في تقدم ورقي تنشر دين الله وتدعو إلى السلم والسلام، وتنبذ العنف والتطرف وترفض التخلف والرجعية.

وإن تعجب فأعجب ممن جاء ينفخ في الجمر الذي طمره الرماد، وينبش القبر الذي أكله الدود. لقد ظهرت في الآونة الأخيرة مسلسلات على القنوات الفضائية الخليجية تسعى بقصد أو بغير قصد إلى نفخ الرماد الذي حينما رأى وميضه نصر بن سيار حذر منه فقال:

أرى خلل الرماد وميض جمر

ويوشك أن يكون له ضراما

وقد ظهرت قبلها برامج أثيرية للمسابقات الشعرية التي يصنف فرسانها على الإثنية القبلية ويتم التصويت البيغاوي لهم في المساء وفي الصباح يتبارى الأغرار ويتجادل الجهال في مآثر قبائلهم تارة ومنتقصين القبائل الأخرى تارة أخرى.

نحن نعيش اليوم في عالم ديدنه التحضر، منافساته راقية، وتطلعاته كبيرة بمجد العلم، ويحترم العلماء، والبقاء فيه للأكثر تحضرا وتقدما وليس فيه مكان لمن يفاخر في تاريخ أغبر ويمجد سنوات قاحلة غاب عن معظم ساحاتها العلم وخلا من معظم تاريخها التقدم.

كم نحن بحاجة اليوم إلى وقفة صادقة وحازمة ضد نافخي الرماد ومسعري الفتنة الذين يهدفون إلى الثراء تارة ويسعون إلى زرع الفتنة تارة أخرى، عن طريق أفلام هابطة ومسلسلات ماكرة وبرامج مشبوهة، ويمكن أن يتم هذا حينما تمنع هذه الترهات ويحذر من إنتاج هذه الخزعبلات وتقوم كل جهة بدورها المناط بها، ويتم بث الوعي لدى الناشئة وتبصيرهم بالنعم التي يعيشون في ظلالها والأمن الوارف الذي يشعرون وتنمية مهارات التفكير التي تجعلهم قادرين على تحديد وإدراك البون الشاسع بين ما قبل وما بعد.

ومراكز البحوث الاجتماعية والتربوية والنفسية في الجامعات وغيرها لها دور أيضاً في إجراء دراسات وقائية وعلاجية معمقة لمثل هذه الظواهر التي قد تنشأ نتيجة انسياق بعض الجهلة وراء مثل تلك البرامج وتأثرهم بمحتواها.

ويبقى دور التربويين مهما في هذا الإطار فهم صمام الأمن لتماسك المجتمع وتألقه من خلال طرح الأفكار المتزنة والآراء النيرة التي تبصر الناشئة بما يحاك لهم وبما يمكن أن تؤول إليه الأمور لو سمحوا برق السفينة.

كما أن المناهج الدراسية لها دور أيضاً في تكريس الوحدة ونبذ الفرقة والتركيز على معالي الأمور والتحذير من سفاسفها.

وأخيراً كم كنا نتمنى أن يختار منتجو تلك الأفلام ومخرجو تلك المسلسلات نماذج مضيئة من تلك الفترة أو غيرها لتكون نبراسا لأطفالنا ونموذجا لشبابنا نحو التقدم والتحضر والرقي لا أن يختاروا مسلسلات رائحتها كريهة ومذاقها مر وطعمها علقم تذكي نار العصبية، وتكرس ثقافة الدم وتزرع في الذهنية مبدأ الثأر والعار، فتاريخنا مليء بالمواقف البطولية الحقة ومليء بالقدوات الحسنة المضيئة ولكن متى سلمت النية حسن الاختيار.

- عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود

albashri@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد