عندما تحركت الحافلة المقلة لذلك الحشد الكبير من أعيان ووجهاء ورجال الأعمال بمدينة بريدة متجهة صوب محافظة عنيزة رجعت بي الذاكرة إلى أحاديث سمعتها وقيدتها من بعض علماء ومثقفي بريدة مما كان لهم تواصل علمي أو ثقافي مع شقيقتهم عنيزة ومنها على سبيل المثال الرحلة التي قام بها شيخنا العلامة محمد العبود - حفظه الله - سنة 1364هـ برفقة الشيخ عبدالله البقيشي - رحمه الله - سيراً على الأقدام، وذلك للاطلاع على بعض الكتب الفقهية لدى طلبة العلم هناك.
كما الرحلة اللاحقة التي كانت بصحبة الشيخ المربي صالح بن سليمان العُمري - رحمه الله - سنة 1367هـ حيث ركبا على حمارين يقودهما شخص يدعى الجوهري استأجره منه، وكان قصد الزيارة تلبية الدعوة التي تلقياها من صديقهما الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل - حفظه الله - للاطلاع على نسخة من كتاب كشاف القناع كانت موجودة ووحيدة لديه آنذاك.
كما تلك الرحلة التي قام بها المؤرخ الشيخ إبراهيم بن عبيد - رحمه الله - لزيارة العلامة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - وطلب منه بعض مؤلفاته إضافة إلى طلبه الشفاعة لدى الشيخ مقبل الذكير لتزويده ببعض الكتب وكانت الرحلة سنة 1367هـ وغيرها من رحلات كثيرة.
إنه امتداد علمي قديم يقود إلى صفحة سابقة حين قدم الشيخ محمد بن عبدالله بن سليم - رحمه الله - من بريدة إلى عنزية اثر الخلاف الشهير الذي وقع مع الأمير حسن المهنا سنة 1301هـ فأقام فيها خمس سنوات جلس فيها للتدريس وولد له فيها ثم استرضاه الأمير حسن فرجع إلى بريدة وتتلمذ عليه عدد كبير من طلبة العلم هناك ومنهم الشيخ محمد بن عبدالله بن مانع - رحمه الله -.
لم تكن العلاقة العلمية بين المثقفين ببريدة وعنيزة علاقة عادية بل كانت تعيش في وهجها على مدى مئات السنين بل إن العلاقة بين علمائهما ظلت مثمرة وكانت شواهد ذلك في زمن الأزمات والحروب والغارات التي كانت تعصف بالقصيم ونجد وعموماً قبل توحيدهما على يد الموحد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -.
والوقائع التاريخية المشهورة في المليدا والطرفية وغيرها شاهد على ذلك.
وحين التم شمل الجزيرة على يد الموحد الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ظل التواصل العلمي بينهما مثمراً في قضاتهما وفقهائهما فكان طلبة العلم يتوافدون على حلق آل سليم وعلمائهم بدءاً بالشيخ محمد بن سليم - رحمه الله - وأبنائه عبدالله وعمر وذكر أسماءهم تفصيلاً الشيخ صالح بن سليمان العُمري في كتابه (علماء آل سليم وتلامذتهم وعلماء القصيم) وكذلك الشيخ عبدالرحمن بن سعدي - رحمه الله - وفيه أيضا قدوم الشيخ الزاهد إبراهيم بن جاسر - رحمه الله - وإقامته فيها وتتلمذ العديد من الطلبة عليه هناك وعلى رأسهم الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله - وكذلك من ولي القضاء فيها من بريدة كما الشيخ محمد بن حسين أبا الخيل وغيرهم، وأخيراً العلامة والفقيه شيخنا محمد العثيمين - رحمه الله - الذي لم يتردد حين توفى الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عبدان - رحمه الله - قاضي عنيزة سابقاً في القدوم والصلاة عليه في مقبرة الموطأ ببريدة سنة 1406هـ في تعبير صادق عن الوفاء للعلماء وتقديرهم.
ولقد أدركت بنفسي عشرات السيارات التي تنطلق من بريدة صباح كل خميس إبان دراستي في كلية الشريعة وكنت منهم حيث يتوافدون على حلق الشيخ محمد بن عثيمين - رحمه الله - من بريدة وباقي محافظات المنطقة.
أما في السبعينيات والثمانينات الهجرية فكانت هناك لقاءات منتظمة بين عدد من طلبة العلم والمثقفين بل كانت أسبوعية يتزاورون فيها واطلعت على مراسلات واخوانيات أدبية رائعة متبادلة بين الشيخ محمد العبودي والشيخ محمد العرفج والأستاذ عبدالرحمن العليان والشيخ عبدالعزيز القويفلي والشيخ عبدالرحمن بن حمد القاضي والأستاذ حمد إبراهيم القاضي والشيخ عبدالرحمن البطحي والأستاذ عبدالعزيز بن علي الشبل والشاعر محمد بن سليمان الشبل وغيرهم من المثقفين.
لقد عشنا يوماً حافلاً شهد فيه أهالي بريدة أفراح شقيقتهم عنيزة وعرسها الذي لا ينقضي في الإنجاز والإبداع والعمل الخيري والاسهام الثقافي والتفاعل الاجتماعي وذكرني بتلك الكلمة التي قالها لي أحد المسؤولين الكبار الذين عملوا في إمارة منطقة القصيم أكثر من أحد عشر عاماً وما بقي في ذاكرته عن القصيم حين قال أنه ذلك التنافس الرائع والذي لا ينقطع طوال العام بين عرائس القصيم يقصد مدنها ومحافظاتها.
الجميع يعمل ويلهث من أجل خدمتهما ونهضتهما والذي قطعاً سوف ينعكس على المنطقة بأسرها والذي يطلع يومياً على وسائل الإعلام والصحف يلحظ ذلك الجدول المزدحم والمناسبات الثقافية والمشاريع المنتشرة التي يرعاها ويلاحق إنجازها أمير منطقة القصيم الأمير فيصل بن بندر وسمو نائبه الأمير د. فيصل بن مشعل بن سعود - حفظهما الله .
لقد تحدث الضيوف والمضيفون فكانت كلمات تقطر فرحاً وبهجة وغبطة بهذا اللقاء وضرورة استدامته وتكراره في المدينتين والتعاون البناء للتنمية الشاملة فيهما.
وشاهد ذلك مركز الجفالي الشامخ والذي يعتبر أبرز شواهد العمل الاجتماعي في عنيزة والذي سوف يخدم منطقة القصيم عموماً بل ويكفيها مطلقاً.
أما الدور الرائع الذي نهض به الشيخ الوطني المخلص إبراهيم بن عبدالعزيز الربدي فهو تعبير عن شعور الكبار العقلاء في حسن إدارته لتلك الرحلة وكلمته البليغة التي ألقاها.
أما ذلك الدليل السياحي الراقي أعني به المحافظ الشاب النشط مساعد السليم فقد كان بلا مبالغة حديث الركب ومحل إعجاب الجميع وانبهار الرفقاء على حسن خلقه ودماثته وجميل استقباله.
إنها صورة جميلة للتلاحم والوحدة الأخوية والمحبة التي تعيشها ديناً ووطناً حفظ الله بلادنا وأدام الود بيننا.