Al Jazirah NewsPaper Saturday  29/11/2008 G Issue 13211
السبت 01 ذو الحجة 1429   العدد  13211
عندما كنت في مزدلفة
فهد بن سليمان بن عبدالله التويجري

كنت في إحدى سنوات الحج وأنا على أرض مزدلفة مستلقياً أنظر في النجوم وقبل أن أنام تلك الليلة الرائعة العظيمة الجميلة، أتأمل لماذا الحج، ما أهدافه، ومقاصده، وأسراره، وحكمه؟! فكرت كثيراً، تأملت طويلاً تدبرت جيداً، ملابس للإحرام، وترك للطيب، وقوف على عرفات، ورمي للجمرات، وحلق للرؤوس، ومبيت على أرض منى و..و.. إلخ لماذا هذه الأفعال، والأعمال، فقلت لعل من بعض أهداف الحج وحكمه:

أولاً: أن الحج توحيد:

إن الناظر - أيها الأحبة - في أركان الحج وواجباته وهيئاته يجد أن الحج دعوة صريحة واضحة جلية بينة إلى توحيد الله، فما لبس ملابس الإحرام مثلاً إلا توحيد وما التلبية: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) إلا هي عين التوحيد، وما الطواف بالبيت، وتقبيل الحجر الأسود، والطواف بين الصفا والمروة، والوقوف على صعيد عرفات، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير) والمبيت على أرض الجمع ليلة العيد على أرض مزدلفة ورمي الجمرات الأولى والوسطى والعقبة، إلا قبول وتسليم وانقياد وتوحيد، وما تقريب الهدايا - وما أدراكم ما تقريب الهدايا ونحرها وذبحها إلا هو عين التوحيد.

وما حلق الرؤوس إلا من التوحيد، فلا نحلق رؤوسنا على وجه القربة إلا للملك العلام، لا نحلق رؤوسنا على وجه الطاعة والقرية إلا له سبحانه وتعالى.

فأصبح الحج بهيئاته وأركانه وواجباته دعوة صريحة واضحة جلية بينة إلى توحيد الله.

ثانياً: أن الحج استقلال وتحرر:

تحرر من ذل التبعية والتقليد، إن الناظر - أيها الأحبة - في حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي ذكرها الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر، يجد أن حجته كلها دعوة لأن تستقل الأمة بأخلاقها ومعتقداتها وعباداتها، من ذلك أنه عليه الصلاة والسلام لما أحرم من ذي الحليفة واستوت راحلته على البيداء أهل بالتوحيد مخالفة للمشركين، فقد كان أهل الشرك يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ثم إنه عليه الصلاة والسلام خالفهم في كل موقف وفي كل عبادة، وهناك مثال ثان وهو أنه عليه الصلاة والسلام لما توجه قاصداً عرفات يقول الإمام مسلم في صحيحه لما ساق حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ثم قال: وكانت قريش لا تشك أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقف في جمع، لأن قريشاً كانت لا تخرج من جمع أي من مزدلفة، لأنهم يقولون: نحن أهل الحرم فلا نخرج منه، وأنتم تعلمون أن عرفة ليست من الحرم وإن كانت مشعراً، فخالفهم النبي عليه الصلاة والسلام.

ثالثاً: أن الحج فيه إعزاز وإذلال:

إن الناظر في حجة النبي عليه الصلاة والسلام يجد أن في الحج واجتماع المسلمين عزة لمن حج وطاف وسعى ووقف المواقف كلها، إن إغاظة أعداء الإسلام أمر مطلوب شرعاً، يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (73) سورة التوبة.

ووصف الله أنصار نبيه أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، والأمثلة على هذا كثيرة.

لاشك ولا ريب ولا مرية أن في اجتماعنا على صعيد عرفات هذا الاجتماع المبارك وهذه الحشود العظيمة، لاشك أن في ذلك إغاظة لشياطين الإنس والجن، ولأهل الكفر عموماً، وما رؤي الشيطان أصغر ولا أدحر منه من يوم عرفة إلا ما كان منه في يوم بدر، فلا شك أن في اجتماع الناس، هذا الاجتماع المبارك لا شك أن فيه إغاظة لأعداء الإسلام، وإعزازاً للمؤمنين.

رابعاً: أن الحج ذكرى وتذكير:

أما تذكر فهو يذكرنا بيوم المحشر وباجتماع الناس فقد ثبت في صحيح مسلم أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تلك الذكية الزكية الطاهرة المطهرة العالمة العاملة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحشر الناس؟ فقال: (يحشر الناس حفاة عراة غرلا غير مختونين) ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (104) سورة الأنبياء.

تقول: يا رسول الله! الرجال والنساء، قال: (الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك) إن باجتماع الناس بملابس الإحرام تذكير لذلك الموقف، إن باجتماع الناس على صعيد عرفات ووقوفهم تلك الساعات تذكير باجتماع الناس بعرصات القيامة، فينبغي للمسلم إن وفق للحج في هذا العام أو فيما يستقبل من الأعوام أن يتذكر بوقوفه على أرض عرفة أو على أرض مزدلفة أن يتذكر ذلك اليوم العظيم الذي صوره القرآن أبلغ تصوير: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ} (103) سورة هود.

ثم إن الحج كما أنه تذكير فإنه ذكرى، ذكرى بأي شيء؟ يذكرنا الحج ما فعله النبي المعلم الصالح المصلح إبراهيم صلى الله عليه وسلم إمام الحنفاء الأمة وحده، يذكرنا بإبراهيم بل وبأمنا أم العرب هاجر رضي الله عنها.

خامساً: أن الحج دعاء ودعوة:

إن الناظر في حجة النبي عليه الصلاة والسلام يجد أن حجته كلها دعاء بل إن حياته كلها دعاء، والدعاء هو العبادة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة) إن الدعاء - أيها الأحبة - من أنفع العلاجات وأجدى الأدوية وأقوى الأسلحة الدعاء الذي نسيناه ونسيناه خاصة في مثل هذه الأعصار التي تلاطمت فيها أمواج الفتن.

الدعاء هو منهج نبينا عليه الصلاة والسلام، ليس في حجته فحسب وإنما في أعماله كلها ولقد سبقه إخوانه من الأنبياء فالأنبياء تعالجوا بالدعاء وتسلحوا بالدعاء وتداووا بالدعاء، فهذا أبونا وأبوهم آدم عليه الصلاة والسلام، لما وقع فيما وقع فيه دعا ربه لما أكل من الشجرة قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}(23) سورة الأعراف.

استجاب الله دعاءهما وتاب على آدم وزوجه إنه هو التواب الرحيم.

وإمامهم ومقدمهم وسيد ولد آدم نبينا عليه الصلاة والسلام، ذلك الذي كل حياته دعاء وكل حياته تعلق بالله سبحانه وتعالى، لما خرج من المدينة أحرم بعد الظهر من ذي الحليفة فلما استوت به راحلته على البيداء أهل بالتوحيد ودعا ربه، فلما أتى مكة دخلها ودعا ربه، فلما رأى البيت دعا ربه، فلما صعد على الصفا ظل يدعو ربه، وهذه سنة مهجورة هجرها كثير من الناس.

والحج كما أنه دعاء فهو دعوة، إن من أفضل المناسبات وأعظم الفرص أن يستغل الحاج هذا الموسم في الدعوة إلى الله، يجب علينا أن نبلغ رسالات الله وأن ندعو إلى الله وأن نعلم الجاهل، وأن نعلم كل من يحتاج إلى تعليم.

وأن ننشر علم التوحيد بين الحجيج، وأن نرغبهم في العلم، وأن نحثهم ونحضهم عليه.

فالحج من أفضل المناسبات للدعوة إلى الله، فالذي في الحقيقة يخالط الحجيج ويجالسهم ثم يرجع إلى بلده من غير أن يهدي كلمة أو موعظة أو نصيحة أو أن يهدي كتاباً في الحقيقة أنه ضيع الأجر العظيم، وفرط في حسنات كثيرة.

سادساً: أن الحج اجتماع:

إن الشارع عندما أوجب الصلوات الخمس أراد معنى أسمى وأعظم من أن نجتمع في بيوته بأبداننا فقط، وإنما أراد أن تجتمع أيضاً قلوبنا، ولما شرع الشارع صلاة الجمعة أراد أن تجتمع قلوب أهل الحي قبل أبدانهم، ثم لما أوجب الحج وأن يجتمع الصغير والكبير الذكر والأنثى والأحمر والأسود في مكان واحد ينشدون مطلباً واحداً هدفهم واحد وربهم واحد أراد معنى هو أعظم من الاجتماع بالبدن، وهو اجتماع القلوب والمعول عليه صلاح القلب (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) والله سبحانه وتعالى لا ينظر إلى أشكالنا وألواننا ولكن ينظر إلى قلوبنا وأعمالنا: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (89) سورة الشعراء.

{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} (46) سورة الحج فيجب علينا في أيام الحج أن نزيل كل الحواجز، فليس بين المسلمين أقاليم وليس بينهم أي حاجز أو مانع، فكان واجباً علينا أن تجتمع قلوبنا، وأن يذكرنا بعضنا بعضاً، وأن يقدم بعضنا لبعض النصيحة والموعظة والمساعدة والإيثار.

سابعاً: أن الحج إنفاق وعطاء:

لاشك أن البذل من صفات المؤمنين، ولقد وصف الله عباده أنهم ينفقون أموالهم في سبيل الله، ومن حج ووقف على عرفات وخالط الحجيج ولم ينفق شيئاً من ماله لاشك أنه خسر خسارة كبيرة، لأن الذي تلبس بهذا النسك وهذه العبادة العظيمة الجليلة وفي موطن عظيم ثم يبخل بماله، فمتى عساه أن ينفق؟ ومتى عساه أن يبذل؟ ومتى عساه أن يساعد الضعيف والمسكين والأرملة والعاجز والفقير؟ إن لم نساعد إخواننا على الأراضي المقدسة والمشاعر المباركة فمتى نساعدهم؟ إن لم نبذل أموالنا هناك فمتى نبذل؟

ومن يبخل بماله فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء {وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء} (38) سورة محمد.

ثامناً: أن الحج اختبار وامتحان:

لاشك - أيها الأحبة - أننا في هذه الحياة الدنيا مختبرون وممتحنون، لاشك أننا نختبر وكل مكلف سواء كان ذكراً أو أنثى فهو في إعداد المختبرين، والمختبر لنا هو الله سبحانه وتعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (7) سورة هود

وأما بداية هذا الاختبار فإذا دخل المكلف سن التكليف وجرى عليه القلم، كان في عداد المختبرين وأما نهايته فبموتي وموتك وموت أي مكلف تنتهي مدة الاختبار، وأما اللجان المراقبة لهذا الامتحان فكما قال ربنا: {كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} (11) (12) سورة الانفطار.

وأما النتيجة ففي الآخرة آخذ كتابه باليمين وهذا هو الناجح {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ}سورة الحاقة.

تاسعاً: أن الحج جهاد لغيرنا واستعداد لجهادنا:

فلقد ثبت أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي عليه الصلاة والسلام هل على المرأة من جهاد يا رسول الله؟ قال: (نعم، جهاد لا قتال فيه، الحج والعمرة).

فهنيئاً للمرأة، هنيئاً لكل امرأة حجت أو اعتمرت لأنها جاهدت، لاشك أنه جهاد لها، لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: (نعم، جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة) وهو جهاد لغيرنا نحن رجال، فليس الحج جهاداً لنا، وإنما جهادنا بالقوة والسلاح، وجهاد النساء بمثل هذه العبادة والطاعة، ولاشك أن في الحج تعويداً لنا على الصبر وتحمل المشاق والمرابطة، لأن الحج بهذا النظام الإلهي وبهذا التنظيم يكون الحاج على صعيد عرفات من بعد زوال الشمس إلى غروبها ثم إذا غربت يتجه إلى أرض مزدلفة ويظل فيها إلى الإسفار، ثم بعد ذلك يرمي جمرة العقبة يوم العيد ثم يقرب هدياً إن كان معه، ثم يحلق رأسه ويفعل هذه العبادات وفق التوجيه النبوي، هذا لاشك أن فيه تعويداً وتنظيماً وتدريباً على أن يأتي الحاج بهذه العبادات على وجه صحيح ووجه مشروع.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد