Al Jazirah NewsPaper Saturday  29/11/2008 G Issue 13211
السبت 01 ذو الحجة 1429   العدد  13211
غيثنر... هل هو الاختيار المناسب؟؟
د. زايد الحصان

ليس لدى أدنى شك في إمكاناته وقدراته الشخصية لتولي المنصب الجديد، ولكن ما يقلقني أنه (صغير في السن)، هكذا كانت ردة فعل أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي من ذوي الخبرات الكبيرة في الشؤون الحكومية على اختيار السيد تيموثي غيثنر وزيراً للخزانة. وفي حقيقة الأمر لم يكن اختيار غيثنر لمنصب وزارة الخزانة مفاجئاً لمن كانوا يتابعون حملة الرئيس المنتخب باراك أوباما منذ بدايتها وشعاره الذي جعله عنوانا لحملته الانتخابية (نستطيع التغيير)، وإيمانه الشخصي القوي بأنه يمثل جيل الشباب القادر على انتشال المجتمع الأمريكي من الوهن الذي أصابه داخليا وانتزاع الريادة الاقتصادية المفقودة عالميا واستعادة المكانة الأخلاقية للولايات المتحدة والتي خسرتها في السنوات الأخيرة بسبب (فوضى) ما يسمى بالحرب على الإرهاب والتي فسرها (حكماء) العالم بأنها حرب على العمل الخيري والدعوي الإسلامي في أرجاء المعمورة لإيقاف الزحف الإسلامي والذي كان ينتشر في أمريكا بالتحديد كانتشار النار في الهشيم خلال السنوات القليلة السابقة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر. ولم تكن المنافسة في اختيار وزيراً للخزانة الأمريكية والتي انحصرت بين قطبين يمثلان جيلين متتاليين و)مختلفين) حيث كان التلميذ (غيثنر) ينافس أستاذه (لورانس سومرز) على المنصب، وفي ظني انه لا يوجد اقتصادي متخصص في العالم يجهل الفارق الكبير بين الاثنين من حيث غزارة العلم الاقتصادي والخبرة العملية الحكومية لكل منهما، حيث يعتبر لورانس سومرز قامة اقتصادية علمية عالمية من الطراز الفريد، في حين لا يحمل غيثنر أي شهادة في أي حقل من حقول الاقتصاد التطبيقية، فهو ذو خلفية علمية قوية في الدراسات الآسيوية الشرقية لا غير، ولكنه كان ذكيا جداً حينما أدرك الأهمية الاقتصادية الكبيرة (وهو غير الاقتصادي) لسوق الائتمان القائم على المشتقات المالية وقام باستثمار سنتين من عمره لدراسة تلك السوق وسبر أغوارها والتي يتم تطويرها بواسطة علماء الفيزياء والرياضيات حتى استعصت على فهم الكثير من علماء الاقتصاد التقليديون ورجال المال والأعمال، ليس ذلك فقط بل إن الكثير من المديرين التنفيذيين لكثير من البنوك العالمية والمؤسسات المالية الكبرى يشعرون بالخوف من تعاظم حجم تلك السوق (25 تريليون دولار) والتعقيدات التي تحيط بها، وقد كان لرئيس بنك أمريكا السيد كينيث لويس تعليقا ظريفا حول تلك النقطة حينما ذكر بأنه يشعر (وكأن رأسه قد بدأ بممارسة السباحة) حينما يدور الحديث حول المشتقات المالية.

وقد كان الهدف الأساسي من التوسع في سوق المشتقات والائتمان المرتبط بها هو توزيع المخاطر المرتبطة بتلك المشتقات بين اكبر عدد ممكن من الأطراف لتقليل الخسائر في حالة عدم الوفاء بالالتزامات المرتبطة بتلك العقود، حيث تم ويشكل مدروس نشر تلك المخاطر على مستوى العالم وتعاظم تأثيرها على النظام المالي العالمي في الوقت الذي كانت فيه مخاطر عدم الوفاء في أدنى مستوياتها. ومع ذلك كانت هذه السوق مصدر خوف وقلق دائمين لكثير من المديرين التنفيذيين، ومنهم بالتأكيد السيد غيثنر؛ لافتقادها للتجربة التاريخية نظراً لحداثتها ناهيك عن ضخامة الأموال المدورة فيها. وقد علق غيثنر على هذه النقطة في مايو 2006 بقوله (إن من أصعب التحديات التي ستواجهنا هو معرفة حجم المخاطر التي ستواجهها أية مؤسسة مالية في حالة أن يكون هناك تدهور في مستوى الثقة في سوق الائتمان أو تآكل في السيولة المتوفرة)، وأضاف نحن حقيقة لا نعلم الكثير حول ردة الفعل المتوقعة لهذه السوق الضخمة عندما تتغير الظروف الحالية ويبدأ الاقتصاد الأمريكي يعاني من بعض الضغوطات الاقتصادية المعتادة أو حدوث أحداث غير متوقعة (كانهيار سوق التمويل والائتمان العقاري حديثا)، وقد كان غيثنر ذكيا حينما استبق الأحداث (بإذن الله) وتوقع في نهاية العام 2006م وبداية العام 2007م، أي قبل أكثر من سنة ونصف تقريباً، حدوث الأزمة المالية التي تعصف بالعالم حالياً حينما طلب من بعض المؤسسات المالية الرئيسة في الوول ستريت بأن تقوم بعملية اختبار لتقييم وقياس حجم المخاطر التي سوف تواجهها فيما لو حدثت أزمة مالية معينة كانهيار احد البنوك على سبيل المثال، وقد كان في الواقع يحاول دراسة العلاقة بين البنوك وصناديق التحوط الضخمة. وكان قد حذر في حينه من أن سوق الائتمان المبني على المشتقات المالية كان على درجة كبيرة من التعقيد بحيث انه قد أصبح من الصعوبة قياس المخاطر المالية المرتبطة في كل مؤسسة مالية. لا أعتقد أنني أقدم جديداً فما ذكرته أعلاه سبق نشره في الصحافة العالمية ولكنني كنت أرمي إلى طرح الأسباب التي أدت إلى اختيار غيثنر لمنصب وزير الخزانة عوضا عن الاقتصادي الخبير لورانس سومرز، حيث يتمتع غيثنر بخبرة كبيرة في أسواق المشتقات وآلية عملها وعلاقته جيده ووطيدة مع المؤسسات المالية في الوول ستريت وهي من يملك النسبة العظمى من سوق المشتقات، ولعلنا لا ننسى ردة فعل الوول ستريت حينما تم الإعلان عن اختيار غيثنر وزيراً للخزانة في الساعة الأخيرة من تداولات الجمعة 21 نوفمبر وكيف عكس الداو اتجاهه تماما من السلبية إلى الإيجابية ليكسب ما يقارب الـ 500 نقطة في ذلك الساعة, ولدى غيثنر خبرة كبيرة في التعامل مع الأزمات المالية المحلية والخارجية، فهو من حافظ على سلامة الاقتصاد الأمريكي وتجنيبه تداعيات الانهيار المالي الآسيوي في العام 1998م حينما اجتمع مع 14 بنكا من كبار بنوك الوول ستريت لحماية سوق الائتمان من الانهيار في ذلك الوقت. ولا ينسى الكثير منا أن غيثنر كان على رأس الفريق الذي كان يتولى عمليات الترميم والإنقاذ للمؤسسات المالية الأمريكية التي عصفت بأموالها الأزمة المالية الحالية بدءاً بهندسته لصفقة الاستحواذ التي تمت بين جي بي مورغان تشيس وبير شيرنز ونهاية بتقديم الحكومة لقرض العشرين مليار دولار لإنقاذ سيتي قروب من الانهيار. مع كل تلك الخبرات العملية المدججة بتجارب حقيقية على طراز رفيع من الأهمية العالمية، والذكاء الحاد الذي يتمتع به غيثنر واشتهر به، فهو يتمتع بروح الشباب والرغبة في الإبداع وهو القائل إذا كان هناك من سوق يحتاج للتفكير الإبداعي فهو سوق الائتمان المبني على المشتقات، وهو من دعم تلك السوق حتى أصبحت كجبل جليد يخشى انهياره، وهو من تم اختياره وزيرا للخزانة لمعالجة الاختلالات في تلك السوق، فهل سينجح؟ ليس لدي أدنى شك (بإذن الله) بأنه سينجح في (لملمة) الوول ستريت مرة أخرى فهو إنسانا عمليا ولا يؤمن بالتنظير ويعتقد بان النجاح مرتبط بقدرة الشخص على جمع المعلومات والنصائح والآراء من أكثر من طرف للحصول على النتائج المرغوبة وبعيداً عن تعقيدات النظريات الاقتصادية التقليدية، وفوق ذلك تقارب السن بينه وبين الرئيس المنتخب يجعل من اليسير عليهما التفاهم والتنسيق معا حول الكثير من السياسات الاقتصادية المقترحة. وأخيراً، أعتقد جازما بأن المنصب الاقتصادي الحديث لا يعتمد فقط على الكفاءة العلمية بقدر ما يعتمد على حيوية الشباب والخبرة العملية (المهنية) والقدرة على صنع واتخاذ القرار في الوقت المناسب، والحرص على سلامة وشفافية سوق المال باعتباره القلب النابض وشريان الحياة للاقتصاد المحلي.

أستاذ العلوم الاقتصادية والمالية المشارك بجامعة الملك سعود


zalhosan@ksu.edu.sa

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد