يتوسط الصفحة الخامسة عشرة في جريدة الحياة هذا الإعلان الصارخ حول حملة الرحمة التي قامت للرفق بالبشر من حولنا من مستضعفين تسحق إنسانيتهم أمامنا في كل لحظة سواء كانوا عمالاً أو سائقين أو عاملات منزليات إلى آخر سلسلة العمالة غير الماهرة التي تضج بها شوارعنا وبيوتنا، ونمعن في امتهانها حتى أضحى ما نقوم به جزءاً من السلوك العام والخاص لا يحدث أية جلبة أو غرابة..
وتبنى الصغار طرق الآباء والأمهات في الصراخ والامتهان لكل قيمة إنسانية للعمالة المنزلية كما أفرط رجل الشارع سواء كان ضمن الشرطة أو الأمن أو هو الرجل العادي الذي يخرج من مكتبه أو بنكه بحيث لا يرى أمامه سوى هذه العمالة الفقيرة ليمارس عليها كل إسقاطاته وعقده الشخصية والاجتماعية والثقافية، بل وصل أمر السخرية من الأقليات العرقية إلى الإعلانات التلفزيونية، حيث يظهر أحد إعلانات شركة ألبان بهذا اللاعب السعودي المشهور الذي يرمي الكرة لتتدحرج وتضرب في النهاية كرش أحد العمال الأجانب الذي يهتز أمام الكاميرا ممثلاً دور قليل الذكاء ممن لا يفهمها وهي طايرة بحيث لا نتمكن من فهم السياق الذي يظهر فيه هذا العامل وسبب حشر المشهد المؤذي قيمياً سوى سطوة الذهنية النمطية لمعدي هذا الإعلان في رؤيتهم لشعوب معينة في العالم حتى تم تجريدها من كل قيمة إنسانية وتم السماح بترديد هذه الأفكار العنصرية عبر الإعلان ليتشربها الكبار والصغار كقيمة وكسلوك مقبولين ضمن الثقافة المحلية!!.
الإعلان المريع في الحياة (ولابد أنه مر على بعضكم) يمثل سائقاً شرق آسيوي يرتدي بزة شرقية وقد قيد فمه باللجام الذي تسوسه امرأة محجبة بنظارات سوداء كبيرة من المقعد الخلفي وفوق رأسه كتبت العبارة التالية (لا تجردني من إنسانيتي)! إنها صرخة واعية تستحق كل الاحترام ولهذا أقف بجانبها بقوة في دعوة لمراجعة قناعاتنا ورؤانا المغلوطة حول الشعوب الأخرى التي نعمد إلى جلب العمالة الرخيصة منها والتي في النهاية شكلت كل هذه الأنماط السلوكية المريضة التي يئن تحت نيرها هؤلاء الضعفاء الذين لا يملكون إلى جانبهم سوى القانون المكتوب (وليس المطبق) فما نراه من تعامل رجال الشرطة وعمال الأمن السعوديين لا يخرج في الغالب عن الشعور بعجز هذه الأقليات وغبائها (لأنها لا تفهم أو تتحدث لغتنا) كما أنها جاهلة ومحدودة الخبرة لأنها لا تأكل بالطريقة التي نأكل بها ولا تسلم بالطريقة التي نسلم بها ولا تدرك التوقعات الاجتماعية لبيوتنا كما نرسمها لكل من الرجل أو المرأة ومن ثم فسلوكها لا يعكس هذه التوقعات إلا بعد حرب ضارية من الصراخ والشتائم، وقد يصل الأمر إلى حد الإيذاء الجسدي وبلا شك السخرية دون أن تهتز شعرة واحدة داخل قلبونا أو ضمائرنا التي ندعي في كل محفل أن الإسلام ملأها بالرحمة (وهو ما يجب)!.
هل سمح لكم وقتكم المزدحم أن تستمعوا عبر عربية أو إنجليزية مكسرة للمآسي الإنسانية التي لا يمكن تخيلها، وبالتأكيد لا يمكن لنا أن نتخيل أن أحباءنا أو أولادنا قد يتعرضون لها لو أجبروا لوضع اقتصادي أو أمنى على مغادرة أوطانهم الآمنة بحثاً عن لقمة العيش والتي يسوقها هؤلاء المستضعفون في تعاملهم معنا كسعوديين سواء داخل البيوت أو المؤسسات العامة أو الخاصة.. هل انتبهت لنظرة الانكسار التي تنطلق من أعين العاملات المنزليات اللاتي يمشين خلف سيداتهن في الأسواق العامة يحملن الأطفال والأغراض فيما تنطلق سيدة الموقف بكل أنفة واعتزاز في المقدمة موجهة أوامرها الملكية للحاشية التي ترافقها من شغالة وأطفال صغار. هل يجب عليكم أن تعيشوا أدورانا كنساء عند قدومنا أو خروجنا من مؤسسات العمل لتستمع لكل أشكال الامتهان التي يمارسها حراس الأمن ورجال الشرطة المنظمون لحركة المرور فوق رؤوس هذه العمالة المغلوبة من سائقين وعمال ولوموزين يتطايرون في رعب خشية الابتلاء بالاصطدام مع سعوديين سيذهبون ضحاياها بلا شك إلا إذا وقف رب العمل لصالحهم.
وقد لا يخفاكم التقارير الدولية التي تصدرها بعض الدول المصدرة لهذه العمالة أو بعض الهيئات العالمية المعنية بحقوق الإنسان عن حجم التجاوزات على كافة الأصعدة والتي تتعرض لها هذه العمالة سواء تعلق الأمر بساعات العمل أو بالإجازات الأسبوعية أو بتحصيل الأجور أو الحرمان من ممارسة أبسط الحقوق الإنسانية في ساعات الراحة أو الحد الأدنى من التعامل الإنساني. هل يعني طرحنا هذا إن كافة أفراد هذه ألأقليات بخير وأنهم المثاليون ونحن مجموعة من الأشرار والعنصريين تجمعنا فوق هذه الجزيرة لامتهان هذه العمالة التي قدر لها حظها السيئ أن تقع بين ظهرانينا؟.
بالطبع لا فكل إنسان مجبول على الخطأ ومما لا شك فيه أن نسبة لا بأس بها من هذه العمالة ونتيجة للمستويات الاقتصادية والاجتماعية البسيطة التي تأتي منها ستقوم بالكثير من التجاوزات الأخلاقية أو السرقات أو إيقاع الأذى في من نحب من أطفال أو كبار في السن تقوم هذه العمالة على رعايتها لكن هذا أيضاً لا يمثل مبرراً مقبولاً لنماذج السلوك العامة التي نتبناها تجاه هذه الأقليات في تعاملاتنا اليومية فنحن أيضاً خطاؤون كما أننا نتمتع بقدر عال من التعقيدات الثقافية والبيئية التي تتكسر أمام طوفان التغيير الحالي ولا نملك لتفريغ شحنات الخيبة والغضب الداخلي الذي يجتاح عالم معظمنا سوى هذه الأطراف الضعيفة التي تقع تحت سيطرتنا من عمالة وافدة ولك أن تتأمل في سلوكياتنا العامة في أي من المطاعم السريعة أو مؤسسات العمل الرسمية وكيف يتعامل حتى صغار الموظفين مع هذه العمالة لندرك بأن المسألة أكثر من مشكلة شخصية مع أحد أطرافها بحيث تحول الأمر إلى أنماط سلوكية عامة تعم الثقافة المحلية قوامها الشعور بالفوقية الثقافية تجاه هذه الأقليات التي لا تفهم ولا تسلك مثلنا مما خلق تلك الصور الذهنية المرضية عن هذه الأقليات تبنتها الذائقة العامة وتقبلت على أساسها أنماطاً سلوكية عنصرية لا ترى فيها ضيراً مادام أن الجميع داخل هذه الثقافة يقبلها ويمارسها.
كيف تشكل شعورنا بالفوقية الثقافية؟ وكيف أدى إلى شعورنا (بعجزهم الثقافي) الذي ولد كل هذه الأنماط السلوكية المشوهة التي تمارسها الثقافة في العلن دون رقيب أو حسيب رسمي أو أخلاقي من داخل ذواتنا؟؟
يتشكل مفهوم الفوقية الثقافية حين تعمد الفئات الاجتماعية أو السياسية أو الدينية الأكثر تأثيراً وقوة في ثقافة ما على تبني وفرض الفكرة القائلة بأن ما تطرحه من قيم ونماذج سلوك يمثل القيم الأعلى والأكثر تأثيراً وهو ما يجب تمثله لذا يبدو سلوك الأقليات ممن لا يتمثلون قيم الطبقات الأكثر سيطرة على المناخ الاجتماعي سلوكاً معوجاً أو خاطئاً مما يولد ما يسمى بظاهرة العجز الثقافي الذي نشعر به تجاه هذه الأقليات سواء كانت هذه الأقليات عمالاً غير مهرة يمتهنون مهناً لا يحترمها المجتمع أو أفراد معارضون للسائد من ذات المجتمع وذات العرق أو نساء أو قرويون بحيث يصعب علينا من خلال هذه النظرة أن نري كيف أن الأساليب المختلفة التي يتبنونها تعمل فعلاً على تحقيق احتياجاتهم.
وتدريجياً يدفعنا هذا الشعور ودون وعي منا إلى محاولة لتبسيط وفهم هذه الخبرات التي تحدث لنا بحيث نقوم بنوع من الفرز والتصنيف لهذه الخبرات الأمر الذي يؤدي بنا إلى الوصول إلى استنتاجات مبنية على عدد محدود من الخبرات أو الأحداث أو الأشخاص وهو ما يولد ما يسمى بالقولبة أو (Stereotyping) أو الستيريو تايب الذي يعرف بأنه (الصورة العقلية التي يشترك في حملها أفراد جماعة ما وتمثل رؤيا مبسطة إلى حد الإفراط المشوه أو موقفاً عاطفياً من شخص أو عرق أو قضية أو حادثة) (بعلبكي، 1996: 906).
لذا تأتي أهمية هذا الإعلان (الذي لا أعرف مصدره أو من الجمعية (غير العنصرية) التي قررت أن تتبناه) ليكون صرخة ضد هذه الممارسات العامة ولتوقظنا على مشكلات قيمية كبيرة تعاني منها الثقافة المحلية ذات علاقة برؤيتنا وتعاملنا مع الشعوب الأخرى (غير الغربية).. أمد يدي لكم.