من المفترض ألا تصل مرحلة النقد الفكري والاجتماعي لبعض الممارسات الدينية أو الآراء الثقافية إلى حد التجريح وإلى تقسيم المجتمع إلى إما معي أو ضدي، وألا يتم اختطاف الرأي ثم إقصاء الآخرين تحت دعوى حماية الوطن من أعدائه المتربصين به من مختلف الاتجاهات، الذين هم في حقيقة الأمر أبناؤه الذين ترعرعوا على ترابه، ويحلمون أن يصل وطنهم إلى أعلى درجات المجد في الحضارة الإنسانية..
سيكون الأمر في غاية السلبية داخل الوطن إذا تم تجريم أي نشاط ثقافي خارج حدود الرأي المتسلط ضد الآخر داخل الوطن، أو إذا تم استغلال العلاقات الشخصية في النَّيل من الآخرين الذين يختلفون في الرأي أو الرؤية لمستقبل الوطن..
تمارس بعض الأقلام أدواراً في غاية التطرف على صفحات الجرائد اليومية، وترفع رأياً إقصائياً وحاداً ضد من يعتقد الكاتب أنه يخالف مصالح الوطن حسب رؤيته الضيقة جداً، برغم أن الأمر في غاية النسبية، وسيظل بمثابة وهم إذا كان بدون دليل مادي؛ إذ لا يمكن رسم حدود إقصائية في الفكر والثقافة قد تؤدي في نهاية الأمر إلى حد إخراج المواطن من دائرة المواطنة أو من صفوف المساواة في الحقوق والفرص، إما بسبب رأيه المختلف أو بسبب إظهاره لانتمائه العربي أو الديني المخالف للمذهب الفكري أو الديني السائد محلياً.. لا يجب أن يُسمح لهؤلاء على الإطلاق بتشكيل الهوية الوطنية على أهوائهم ومصالحهم الشخصية، أو أن يضعوا قالباً محدداً للمواطنة، فالانتماءات قد تختلف من شخص إلى آخر، وقد يشعر المواطن بانتمائه العربي أو الإسلامي الذي يحفل باختلاف انتماءاته حسب المذهب أو الطائفة وغيرها من المدارس الدينية التي تزدحم بها الساحة..
منذ فترة قصيرة وصل حد التطرف في الرأي الإقصائي إلى تذكير أحد الدعاة بأصله أو بانتمائه إلى وطنه السابق، وهذه شوفينية وعنصرية لا يجب أن تمر مرور الكرام؛ فليس من اللائق حضارياً أن ندعو إلى سحب الجنسية ممن يختلف معنا في الرأي أو طريقة التفكير أو إذا حدث وخرج منه رأي شاذ أو مخالف لمنهج الغالبية السائدة.. فالأصل في شيء الاختلاف والتعدد، وليس النمطية التي تريد أن ترفضها بعض النخب الثقافية المتطرفة جداً.. وعلمتنا التجارب العربية أن بعض الحكومات العربية فشلت في فرض نمط ثقافي موحد على مختلف أعراقها وطوائفها، وما حدث في العراق من انتقام واقتتال بعد سقوط الدكتاتور دليل على فشل التسلط على عقول الناس وإرغامهم على التفكير أحادياً..
في جانب آخر تحفل المنتديات الدينية أيضاً بمختلف أنواع الإقصاء للرأي المخالف، وعادة يكون الإقصاء الديني في أشد حالاته ضد المخالفين في العقيدة أو الطائفة أو التوجُّه الثقافي.. وهذا التطرف له تاريخ وجذور في ذهنية التفكير الديني في بيئة الجزيرة العربية وصحرائه الشاسعة؛ فالإقصاء بعد التكفير أو التبديع كان أسهل حلول الخلافات السياسية وذلك باستباحة دم المخالفين، وربما نُدين لتلك المرحلة أو لهذا الفكر بتحقيقه للوحدة الوطنية، لكنه بكل تأكيد يحتاج إلى مراجعة ضرورية من أجل مستقبل أكثر تسامحاً..
من المثير للدهشة أن هذا الرأي المتطرف والموروث من الأجداد أيضاً موجود في بعض المنتديات الوطنية والليبرالية، ويظهر بصورة كاريكاتورية مدهشة؛ فالكلمات التي يستعملها بعض الكُتّاب مفردات حداثية، لكنها مشحونة بلغة إقصائية هي نفسها كتلك التي كان يستعملها الأجداد ضد مخالفيهم، لكن بدون استدلال من النصوص الشرعية، كما هو الحال في بعض فتاوى الرأي الديني المتطرف في الاتجاه الآخر.. هذا إرث لا يمكن تجاوزه، وما زال يجري في دماء أو عقول بعض المثقفين، ومعظم الأقلام الدينية.. المفارقة أن الرأي المتطرف الذي كان يسود الساحة باسم العقيدة الصحيحة أو الدين القويم توارى عن الأنظار وأصبح يكتب من وراء حجاب وخلف أسماء مستعارة، بينما تحفل الصحافة بالآراء الوطنية المتطرفة ضد من يخالفهم الرأي أو التوجه، والسؤال الذي تتوقف علامات الاستفهام عن ملاحقته هو: كيف نتجاوز هذا الخلل الذي يحاول البعض إخفاءه وعدم التصريح به من أجل المحافظة على مصالحهم الذاتية؟..
خلاصة الأمر أننا في مدخل القرن الواحد والعشرين من حضارة الإنسان ، والوطن ما زال ينتظر الإفراج عنه من سجون التطرف من الجانبين، ومن تلك الرؤية الأحادية المتوارثة عبر الأجيال، ويأمل أن يأتي يوم تتفق في داخله مختلف الآراء والتيارات على أن الوطن لا بد أن يأتي أولاً، وذلك من أجل وطن لا تغيب عنه شمس الحضارة الإنسانية.. والأهم من ذلك هو كيف نقدم تعريفاً متجدداً للمواطنة يتماشى مع التطورات الحضارية في مسيرة الوطن، فالقيادة الحكيمة تقدم الآن للعالم برنامجاً مناهضاً لصراع الحضارات، وهو الدعوة التي وصلت أصداؤها إلى مختلف القارات وتقوم على منهج الحوار الدائم بين الأديان والثقافات، ليس الغرض هو الاندماج، ولكن لنبذ لغة الإقصاء.. ما يحدث على الساحة محلياً يخالف هذا النهج ويحفل بلغة شديدة التحريض ضد المخالف، ويساعد في ذلك محاولة بعض الفعاليات من الطرفين استعداء السلطة ضد الآخر، وهو توجه يخالف التوجهات الرسمية، ولا يخدم مبدأ التطور الخالد في المجتمعات البشرية؛ فنحن ما زلنا نفكر من خلال رؤية أحادية ومتطرفة وإن ظهرنا بمظهر المثقف أو الداعية الحكيم.