من عجائب حضارتنا المعاصرة أن الدول المتقدمة فيها، والتي بلغت شأواً بعيداً في التطور العلمي المسخر لخدمة شعوبها، وتحسين ظروف الحياة لمواطنيها، وما يستلزمه ذلك من تقديم أرقى الخدمات المعيشية والصحية والعدالة الاجتماعية مما لم يسبق له مثيل في حياة البشرية، إلاَّ أنها وبذات المستوى، من التقدم قد طورت أخطر الأسلحة وأشدها فتكاً لتدمير الحياة البشرية.
ومن عجائب هذه الحضارة التي تدعي أنها تسعى إلى نشر الحياة الكريمة، وتزعم أنها تحاول تحرير الإنسان من الاستبداد والظلم الذي تعرض له عبر تاريخه الطويل على يد أخيه الإنسان، إلاَّ أن هذه الدول المتفوقة بدساتيرها وتقنياتها تمارس التمييز والظلم والاستبداد بأسوأ أشكاله من خلال مخططاتها واستخباراتها حول العالم، فتجيز لنفسها ولمن يدور في فلكها أن يحوز التقنية بلا قيود، وأن يطور أسلحته التدميرية بلا حدود، بينما تظل عينها ترقب بقية دول المعمورة، تحت مبررات اتضح للعالم عدم مصداقيتها، مثل دعوى المحافظة على السلام واستقرار العالم، والخوف من التلوث البيئي، والقول بعدم أهلية بعض الحكومات والشعوب لحيازة الأسلحة المدمرة!
ولعله من المناسب في هذا الصدد التذكير بتطور صناعة السلاح النووي خلال الخمسين سنة الماضية، حيث إنه من المعروف أن الولايات المتحدة قد أنتجت أول قنبلة نووية انشطارية عندما صنعت في عام 1945م ثلاث قنابل نووية انشطارية قوة كل منها تتراوح ما بين 15 و21 طناً، ومنها قنبلة هيروشيما 15 طناً، ونجازاكي 21 طناً. تلتها بعد ذلك روسيا عام 1949م بقنبلة مماثلة زنتها 22 طناً، ثم لحقت بريطانيا الركب عام 1952م بإنتاج قنبلة نووية بقوة 25 طناً، ثم لحقت فرنسا عام 1960م وأنتجت قنبلة نووية انشطارية، ثم دخلت الصين عالم التدمير عام 1964م بإنتاج قنبلة انشطارية بقوة 22 طناً، ثم الهند عام 1974م التي أنتجت قنبلة انشطارية بقوة 12 طناً، ثم لحقت باكستان عام 1998م بإنتاج قنبلة انشطارية بقوة 9 أطنان.
ولم يتوقف ذلك السباق المحموم نحو التدمير عند هذا الحد، بل إن كل دولة واصلت ركضها نحو التفوق التدميري، فأصبحت القنبلة الانشطارية ذات الواحدة والعشرين طناً التي مسحت نجازاكي من الخريطة من أسلحة الزمن القديم، فأعلنت أمريكا عام 1952م عن إنتاج قنبلة تيرمونووية تفوق قوتها قوة قنبلة نجازاكي بآلاف المرات، ثم أعلنت روسيا عام 1953م عن إنتاج قنبلة اندماجية بقوة 400 طن، ثم تيرمونووية بقوة 16.000 طن عام 1955م، ثم أخرى عام 1961م بقوة 50.000 طن، وتعد الأكبر في التاريخ النووي. ثم أعلنت بريطانيا عام 1957م عن إنتاج قنبلة تيرمونووية، ثم أعلنت الصين في عام 1967م عن إنتاج قنبلة تيرمونووية بقوة 3.300 طن، ثم أعلنت فرنسا عن إنتاج قنبلة تيرمونووية بقوة 2.600 طن عام 1968م، ولا زال الركض مستمراً!
وفي ظل هذا التسابق المحموم كانت العيون مفتوحة على بقية دول العالم المغلوبة على أمرها حتى لا تحصل على التقنية النووية بأي شكل من الأشكال، ولهذا اتفقت الدول النووية على تكوين الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتم الطلب من دول العالم التوقيع على اتفاقية خاصة بالحد من انتشار الأسلحة النووية لإحكام الرقابة على الدول غير المرضي عنها، وأصبح التشهير بأي دولة تحاول استراق التقنية ممارسة سائدة، بينما سمح لإسرائيل بأن تحوز ما تراه مناسباً لتفوقها بالطرق المشروعة وغير المشروعة، وإعطائها المبررات اللازمة، وفضلاً عن ذلك ساعد الإعلام الغربي على التكتم على أسرارها النووية، وعدم الإنكار عليها فيما يتعلق ببناء ترسانة تدميرية تشمل السلاح النووي والجرثومي والبيولوجي بشتى أنواعه، لأنها دولة مسالمة وواعية، ولأنها من محاور الخير، أما الدول المعادية لها فإنها من محاور الشر في نظر العيون الزرقاء!