(الجزيرة) - خاص
تتجلى في فريضة الحج أعظم معاني المساواة والوحدة بين أبناء الأمة الإسلامية، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وألوانهم، في مشهد لا مثيل له في أي من الديانات الأخرى.. فكيف يمكن استثمار هذا المشهد العظيم في تحقيق الوحدة والترابط بين المسلمين على أرض الواقع، وتجاوز الخلافات والنزاعات بين الدول الإسلامية؟ وهل ثمة آليات يمكن من خلالها تحقيق هذا الهدف؟ وغيرهما من التساؤلات التي حاولنا الإجابة عنها.. فكان هذا التحقيق.
شعيرة عظيمة
بداية يؤكد د. صالح بن عبدالرحمن المحيميد رئيس محاكم منطقة المدينة المنورة: منافع الحج الدينية والدنيوية لا يمكن حصرها؛ لأن في الحج من المنافع والمصالح في الدنيا والآخرة ما لا يمكن حده لتجدده؛ ففي كل عام يحصل للإسلام والمسلمين فوائد لم تكن في الأعوام السابقة، فالإسلام بعقيدته ومعاملاته حوى الخير كله ما كان وما سوف يكون، يعلم ذلك العالمون بأسباب الخير والشر، وإذا كان الإسلام كذلك فإن الحج وإن كان ركناً من أركان الإسلام وشعيرة عظيمة من شعائر هذا الدين فإنه قد تضمن عقيدة الإسلام وهي توحيد الله وإفراده بالعبادة وتضمن الحكم والفوائد الدينية والدنيوية التي في سائر أركان الإسلام الأخرى، وتنقسم المنافع في الحج إلى قسمين عامة وخاصة، فالعامة هي التي تصل للمسلمين عامة مَن حج ومن لم يحج. والخاصة هي الفوائد والمنافع التي تعود على الحاج وأسرته وجيرانه ومن يتصل به، فأما المصالح العامة فما من شيء يوحد المسلمين مثل الحج، إذ كل بلد يبعث من أفراده من يحج فيلتقي الأفراد ويتصل بعضهم ببعض ويفيد كل منهما الآخر فيما يستطيع من خيري الدنيا والآخرة، ففي هذا الموسم العظيم يلتقي الساسة والعلماء وأهل الرأي ومن دونهم يبحثون في ما ينفع أمة الإسلام، وكل من هؤلاء في هذا المكان وهذا الزمان في أحسن أحواله من حيث الإخلاص لله والخوف منه والرجاء بما عنده، ولا شك أن وحدة المسلمين وانضباطهم كل عام تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله أعظم دليل على أن توحيد المسلمين ممكن وهذه من أعظم مقاصد الحج العامة. ومن المصالح العامة أيضاً توثيق الصلة والروابط بين المسلمين وإزالة ما ينشأ بينهم من تعارض المصالح؛ فالحج المكان المفضل لتصفية النفوس والتفاهم وإيثار مصالح الأمة العليا؛ فأمة الإسلام مصلحتها في وحدتها ولن يوحدها إلا الإسلام الذي أثبت بالحج إمكانية الوحدة، ولو اتحدت أمة الإسلام كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد فلن يجرؤ أحد، قوي أو ضعيف، على الاعتداء على أي فرد أو بلد من بلاد الإسلام؛ لأن المسلمين هم أكثر من غيرهم وأوسع أوطاناً وأعظم ثروات من غيرهم، فعوامل القوة موجودة في هذه الأمة إذا اتحدت، والحج مثال صغير للوحدة الإسلامية الكبيرة.
ويضيف د. المحيميد: أما المنافع والمصالح التي تعود على الفرد فمنها التقوى، فالحاج قاصد خالقه الذي دعاه للحج كما قال تعالى: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَج عَمِيقٍ)، (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)؛ فالحج كله تقوى لله وأعظم تقوى لله توحيده سبحانه وإفراده بالعبادة دون سواه كما قال جل في علاه: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ)؛ فاعظم مقاصد الحج ومنافعه تحقيق التوحيد لله والبعد عن الإشراك به، ومن فوائد الحج معرفة المناسك والتفقه في أحكام الحج وغيرها وسؤال أهل العلم عما يشكل فلا يصح أن يعبد الله على جهل أو تُؤدى المناسك على غير هدى.
ومن مصالح الحج اجتناب المعاصي والمحرمات: (فمن حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)؛ فالحج المقبول يهدم الآثام ويَجُبُّ ما قبله وهل بعد هذا مطلب؟ فالحاج يريد أن يكون حجه مبروراً؛ لينال ثوابه وهو الجنة غاية كل طالب؛ ولذا يلزم نفسه باجتناب ما نهى عنه الله ورسوله فيتحلى بكل خلق رفيع ويتخلى عن كل أدب وضيع فلا يؤذي أحداً بيده أو لسانه بل هو المبادر لكل عون ومساعدة؛ إذن الحاج نهل من (مدرسة الحج) الأخلاق الكريمة والسجايا الحميدة والمثل العليا من الصبر والتحمل والتعاون والإيثار بعيداً عن العنف والشدة والإيذاء. وفي الحج من المنافع الأخرى الكثير ففيه الصدقة، واجبة كانت أو نافلة؛ فالأحرى بالقادرين التصدق على إخوانهم الفقراء والعاجزين من الحجاج وغيرهم من المقيمين في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، وفيه الكسب الحلال من البيع والشراء وتبادل المنافع وغير ذلك مما لا يمكن حصره كما قال سبحانه: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
المنافع الدنيوية
ويقول د. إبراهيم بن ناصر الحمود الأستاذ المشارك في المعهد العالي للقضاء بالرياض: من منافع الحج الدينية والدنيوية - على سبيل المثال لا الحصر - أنه سبب لدخول الجنة، كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، والحج رابطة أخوية من أقوى الروابط في الإسلام؛ كونه يحقق التآلف والمحبة بين المسلمين على الرغم من اختلاف جنسياتهم وتباعد أقطارهم، والحج يحقق سمة من سمات الإسلام وخصائصه ألا وهي العدل والمساواة؛ فلا فرق فيه بين غني ولا فقير، ولا سيد ولا مسود، ولا جنس دون جنس؛ فالناس كلهم سواء في لباس واحد وهدفهم واحد، فتتجسد أسمى آيات الوحدة الإيمانية والأخوة الإسلامية في هذا الموسم العظيم. وفي الحج تعظيم لشعائر الله التي هي علامة على تقوى القلوب كما قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)، كما أن في الحج تعظيماً لذكر الله كما قال تعالى: (فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ). وفي الحج اقتداء بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - القائل: (خذوا عني مناسككم)، والعمل بسنته عملاً بشرع الله (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)، وفي الحج التقرب إلى الله بأنواع العبادات التي منها ذبح الهدي؛ طاعة لله - عز وجل - (وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).
الواجب والمحظور
ويوضح د. طارق بن محمد الخويطر الأستاذ بمعهد القرآن الكريم بمدارس الحرس الوطني العسكرية: ذكر العلماء فوائد دينية ودنيوية كثيرة للحج وأفردوا لها رسائل ومؤلفات ومشى بعضهم على أركان الحج وواجباته ومحظورات الإحرام فيه وغير ذلك وأخرج كل ركن وواجب ومحظور ونحو ذلك فوائد للحاج دينية ودنيوية لكن المجال هنا لا يتسع إلا لبعض هذه المنافع التي منها:
أولاً: لباس الإحرام: من المعلوم أن المسلم إذا قرب من أحد المواقيت التي يمر بها لبس لباس الإحرام وهو إزار ورداء إذا لبسهما تذكر حال الآخر فالمسلم يخلع زينته التي كانت عليه قبل الإحرام، فالحجاج جميعهم يتفقون على هذا اللباس وفيهم الأمير والمأمور والغني والفقير والكبير والصغير والأبيض والأسود، وهذا يشعر بالأخوة والمساواة ويجعل المسلم يعطف على أخيه وأيضاً يتواضع لله ولا يتكبر.
ثانياً: التلبية، وهي قول المحرم: لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك.. فهذه لها أثر لأن الملبي يلتزم الإجابة في كل حالاته؛ فهو يعاهد ربه على الالتزام بالطاعات؛ فقوله: لبيك معناها أنني أجيب دعوتك وألزم طاعتك، وهذه الإجابة وإن كانت حال الإحرام إلا أن المسلم يلتزم بها في كل وقت فالتلبية كالعهد.
ثالثاً: أما محظورات الإحرام فقد ذكروا لها أيضاً منافع فقالوا في محظور تغطية الرأس إن كشف المحرم لرأسه وعدم تغطيته دليل على الخشوع والذل بين يدي الله - جل وعلا -؛ لأن ستر الرأس من الجمال الذي يتجمل به الإنسان وكشفه لرأسه دليل على افتقاره إلى ربه عز وجل.
ويضيف د. الخويطر: وأما تجنب المحرم للطيب مع أن الطيب شيء محبب للنفس فلأجل أن تبعد نفسه عن الشهوات فإذا ابتعدت كان ذلك تعويداً لها على هجر المعاصي والاستمرار على الطاعة؛ إذ النفس كالطفل تشب على ما يعوّدها عليه صاحبها، وكذا أيضاً يُنهى المحرم عن قص الشعر وتقليم الأظافر لأن هذا مما يتجمل به لأن الإنسان يشعر براحة عندما يقص شعره ويقلم أظافره لكن المحرم منهي عن ذلك لأن أخذ ذلك تنعُّم وهو يبتعد عن التنعم؛ حتى يشعر بالفقر والحاجة إلى الله - سبحانه وتعالى -، ومنع المحرم أيضاً من النكاح وما يتعلق به؛ لأن هذا مما تميل إليه النفس وتشتهيه فإذا ترك ذلك شعرت نفسه بالانكسار، ومتى انكسرت نفسه وانكسر قلبه وتواضع لخالقه أجاب الله - عز وجل -، وإذا تجنب المحرم الرفث؛ فذلك تعويد على هجر كل كلام لا يفيد. وأما الطواف ففيه تعظيم لحرمات الله سبحانه؛ قال تعالى: (وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ)، وقال جل وعلا: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)؛ فالذي يطوف بالبيت يشعر كأنه بين يدي الله تعالى؛ ولذا فإنه يقطع أشواط الطواف بالدعاء أو بالذكر وكل ذلك عبادة لله تعالى، وهذا التعظيم لله تعالى يجعل العبد لا يرجع إلى ذنب أو معصية، إذا رسخ في قلبه تعظيم لله تعالى؛ فتكون نفسه أبعد ما تكون عن هذه الذنوب والمنكرات. وأما السعي بين الصفا والمروة فهو أيضاً استجابة لأمر الله - جل وعلا - وفعله يدل على كمال الطاعة؛ إذ يقول: سمعنا وأطعنا، وإن لم يعرف الحكمة أو يتبين له السبب في الأمر أو النهي، ولذلك جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها -: (إنما جعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله).
ونزول الحجاج يوم التروية بمنى ثم رحلتهم إلى عرفة وبعدها إلى مزدلفة كل هذا تذكر لهم أن الدنيا ليست دار قرار وإنما هي دار ارتحال. وأما وقوفهم بعرفة فلأجل تذكيرهم بيوم القيامة؛ إذ الناس مجتمعون في صعيد واحد في حال الذل والانكسار يدعون الله تعالى أن يغفر لهم ويتجاوز عن سيئاتهم وهم مع وقوفهم لا فرق بين العرب والعجمي والغني والفقير والذكر والأنثى والأمير والمأمور، فإذا حصل منهم هذا التواضع والانكسار باهى الله تعالى بهم ملائكته وأشهدهم على مغفرته لهم. ثم إن حرصهم على الصلاة في مزدلفة تذكير بأهميتها في نفوسهم، ورمي الجمار تذكير لهم بعداوة الشيطان؛ إذ اعترض في هذه الأماكن لإبراهيم - عليه السلام - يحاول صده عن ذبح ابنه إسماعيل - عليه السلام -، وأما ذبح الهدي فهو إحياء لسنة إبراهيم - عليه السلام -، فإن الله تعالى ابتلاه وامتثل لذلك؛ ففداه بذبح عظيم فذبحه فصارت سنة مؤكدة. وشراء الهدي وذبحه فيه تعويد للنفس على الإنفاق في وجوه الخير، وأن الله تعالى يخلف هذه النفقة ويبارك في المال.
والحاصل أن الله تعالى دعا عباده للحج ليشهدوا منافع لهم ثم ذكر سبحانه فيه أربع منافع: الأولى ذكره - عز وجل - في الأيام المعلومات وهي عشر ذي الحجة وأيام التشريق، والثانية والثالثة والرابعة: أخبر عنها سبحانه بقوله: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ). ويكفي منفعةً للعبد إذا أدى هذا النسك على الوجه المطلوب أن يرجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه كما جاء ذلك في الحديث.