يقول الخليفة المأمون مفتخراً بالخط العربي: (لو فاخرتنا الملوك الأعاجم بأمثالها، لفاخرناها بما لنا من أنواع الخط، يُقرأ في كل مكان، ويترجم بكل لسان، ويوجد في كل زمان).
إن الخط ركن أساسي في المواد التعليمية ففيه يسطر كل متعلم ومثقف حروفه التي ينشر بها العلم والمعرفة والفن والتراث، فلو أهملنا هذه المادة لأصبحنا لا نشم من الحرف إلا رائحة الأحبار فقط، لا جمالية الحرف ولا رشاقته ولا أصالته، فالحرف الجميل خرج من رحم أصابع الخطاطين العِظام ولكن الآلات والكمبيوترات أصبحت في زمننا هذا حاضنة هذا الحرف بل المقبرة التي دفنت معه جماليته وشفافيته ورشاقته المعهودة.
لقد سبقنا الخليفة الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في جمع حروف وكلمات القرآن الكريم خوفاً من تبعثر الحروف وضياع الكلمات والجمل من الآيات الكريمة، ونحن الآن مطالبون أكثر من أي وقت مضى بالحفاظ على هذا الحرف وأن نكمل ما بدأه الخليفة الثالث وأن نسارع إلى إنقاذ هذا الحرف، فهو يتعرض لهجمات من مؤسسات وجمعيات عالمية عدوة للإسلام فقد خططت هذه الجمعيات لتغيير شكل الحرف العربي المرتبط ارتباطاً كاملاً بالقرآن الكريم لأنه حرفه الذي خُط به، إنهم يحاولون بطريقة غير مباشرة المساس بجمال الحروف التي كتب بها المصحف الشريف.
أملي من وزارة التربية والتعليم أن تعمم طرقا حديثة مع تعاملها في تعليم الخط ونشره ومعرفة تاريخه من الصفوف الأولى حتى الجامعة؛ ليقوم مدرسو التربية الفنية واللغة العربية بوضع ذلك الحرف الجميل نصب أعينهم؛ لتكون لهذا الحرف مكانة مشرقة تتباهى بها الأمم الأخرى من شرق المعمورة إلى غربها، فاهتمامنا بالحرف العربي هو اهتمام بالقرآن الكريم الذي سُطّرت آياته بهذا الحرف الشامخ والاهتمام كذلك بثقافتنا وتراثنا وفنوننا العربية الأصيلة.
وإننا نضع في أعناق وزارة التربية والتعليم أمانة الحفاظ على هذا الحرف من عمليات تشويه وتغيير وطمس لمعالمه العربية، موضحا حقيقة ما يمر به ذلك الحرف الأصيل من تحديات وما يدهمه من خطر ليصبح مجردا من أبسط قواعده، فالجمعيات آنفة الذكر تعمل بالخفاء لوضع بصماتها السامة على صناعة الحرف العربي قبل إدخاله إلى الطابعة والكمبيوتر وتعتزم هذه الجمعيات الملحدة والصهيونية أن تعمل بمهارة وتدريجياً على طمس معالم الحرف العربي واختصاره وجعله أقرب إلى الحرف اللاتيني والعبري وتحاول القضاء على اختزاليته وتجريده من جميع أوصافه الجمالية وليونته ورشاقته المعروفة وأنواعه المتعددة وتطوراته الزمنية المختلفة.
فشباب اليوم ومع أشد الأسف والحسرة أداروا ظهورهم لفن الخط العربي وأنواعه وقواعده وأشكاله الجمالية، فهم يجهلون أبسط قواعده ونرى ضعف كتاباتهم منذ الصغر حتى الجامعة إلا ما ندر منهم وبعض الطلاب لا نستطيع قراءة كتاباتهم. لأنهم لم يجدوا في مجتمعهم أو في مدارسهم من يعرف هذا الفن أو يشجع على معرفته. لقد تمسكوا بهوايات مختلفة لها دعايات في كل مكان أما الخط العربي فلا دعاية له.
لقد ترك الشباب جزءا من تراثهم فقد خلا من الجمهور والتشجيع وحتى من المسابقات الدورية، وإذا دخلنا مكتبة قلّما نجد لوازم وكتبا تشجع على تعلم الخط، بل تجد هناك أقلام خط أجنبية قصت على طريقتهم مما يفقدها رسم الحرف على الطريقة العربية. إن الغرب تدخل حتى في رسم الحرف العربي أين ذلك القصب الأصفر والأحمر الذي يقص على طريقة الخطاطين العرب في رسم الحرف الذي كان أساساً في تعليم السابقين أصول الخط الجميل. وإذا أردت أن تتعلم في معهد للخطوط العربية لا تجد العراقة والإخلاص بل أهم ما فيه هو المادة النقدية التي تقدمها له وتتخرج منه بدون فائدة مرجوة، وإذا ظهرت مهرجانات في الصحف والتلفزيون تجد فيها جميع الهوايات إلا الخط المسكين.
وقد شاركتُ في مهرجان للخط العربي لدول مجلس التعاون منذ عام 1992م في الكويت واستمرت هذه المعارض الخليجية المشتركة حتى قبل ست سنوات والآن لم نسمع عنها ولم تقم في هذه الدول إلا معارض الخط في الشارقة فإنها مستمرة - ولله الحمد -، لذا نطلب من مسؤولي دول مجلس التعاون تفعيل هذه المعارض واستمرارها لتعم الفائدة للجميع ويكون هناك لقاء مستمر لجميع خطاطي دول المجلس ليعطي كل خطاط ما وصل إليه من موهبة، ويكون هناك تبادل مشترك لفن الخط والزخرفة فالخط فن الشعوب العربية الأصيلة.
إن أبناءنا الآن لا يعرفون إلا الجلوس أمام الكمبيوتر وقد أداروا ظهورهم للفنون الأصيلة، فلو سألت أحدهم كيف تتعلم فن الخط قال: سأتعلمه من الكمبيوتر. هل الكمبيوتر يستعان به عوضاً عن أستاذ الخط؟ فالأستاذ يسير على قواعد وأصول ثابتة في رسم الحرف وضعها رجال نذروا أنفسهم منذ مئات السنين يتعاقبون أجيالا بعد أجيال في وضع أصول ثابتة لقواعد الخط العربي وطرق رسمه وتصنيفه إلى أنواع رئيسية وأخرى فرعية وتنويع مدارسه حتى وصلوا إلى قواعد لا تتغير محسوبة بالنقاط والاتجاهات المتعددة لها أوزانها الخاصة لكل نوع من الخطوط، وللخط كذلك أسراراً في رسمه وهي حركة العضلات الخاصة باليد يعلمها أستاذ الخط لتلاميذه، كبداية رسم الحرف ومسافته واتجاهاته ودورانه وتداخلاته والتقائه ونهايته وسر حركة اليد الماسكة للقصبة وتوجيهها لرسم الحرف. هل الكمبيوتر يعمل ذلك؟ وهل يعرف كل هذا؟ فمن وضع قواعد الخط في الكمبيوتر هم أنفسهم الذين صنعوه ولا يريدون للحرف أن ينهض، فالأجنبي الذي لا يدين الإسلام لا يمكن أن يخدم هذا الدين كما خدمه الخليفة عثمان عندما حافظ عليه من الضياع. نخاف على أولادنا أن يتعلموا يوماً من الأيام أشكالاً من الحروف مدسوسة عليهم عبر الأجهزة التي أمامهم وفعلا جاءوا بمسميات عدوة لأصالة الحرف وهي دخيلة علينا سُميت بالخط الحر أو المودرن أو غير ذلك؛ لأننا لم نمسك أولادنا منذ نعومة أظافرهم لنعلمهم الخط العربي الحقيقي وليس المودرن المزيف. لذلك وزارة التربية والتعليم كفيلة بأن تبدأ بالطفل منذ نعومة أظافره لتعلمه عن طريق إخصائيين في تدريس هذه المادة ليحافظ على هذا الحرف بعد أن يتعلم كتابته وأنواعه وتاريخه ويحسن خطه في جميع مراحل دراسته، فدرس الخط له أهميته الكبرى لبقية الدروس الأخرى فهو قاعدتها وعمودها الفقري ومكملاً لكل مادة دراسية فلو جعلنا مادة الخط درساً مستقلاً كبقية الدروس لسارت فائدته في دم الطالب وعضلاته ولازم التلميذ حتى تخرجه من الجامعة يتفاخر به أمام الآخرين كأنه يحمل شهادة أخرى غير شهادته.
وللموضوع بقية متسلسلة فموضوعنا القادم - إن شاء الله - هو (تقديم الخط العربي في مدارسنا) الذي يليه (أصول تدريس الخط العربي)، الذي يليه: (خطوات تدريس الخط العربي) فهي خاصة كلها ومهداة لشبابنا المحب للخط هذا والله الموفق.