Al Jazirah NewsPaper Thursday  27/11/2008 G Issue 13209
الخميس 29 ذو القعدة 1429   العدد  13209
رحلة قطار
د. هشام السحار

انتبهت فجأة على رنات ساعة اليد في معصمي حين نظرت لها لم أصدق.. مرت سبع ساعات منذ آخر مرة نظرت إليها أسألها عن الوقت.. ولا يزال القطار يقطع ظلمات الليل من حوله في ثقة واستقرار دفعاني لئلا أنظر للوقت طيلة سبع ساعات كاملة.. ولكن كيف مر كل هذا الوقت ولم نصل لمحطة النهاية حتى الآن؟

أسندت ظهري لحائط القطار.. فأنا الراكب الوحيد الذي ليس له مقعد على ظهره.. فحين قفزت إلى عربة القطار الأخيرة وهو يغادر المحطة لم أكن أحمل تذكرة مقعد كما فعل كل هؤلاء الجالسين أمامي في مقاعدهم بينما اكتفيت بالجلوس على حقيبة صغيرة أحملها تضم بعض الأوراق وأشياء أخرى لا قيمة لها وأسندت ظهري إلى جدار العربة الخلفي.

وانتبهت على رنات ساعة اليد في معصمي..

استرعى انتباهي بلا شك ذلك الهدوء المخيم على أنحاء القطار.. لا حديث.. لا همسات.. لا ضحكات.. حتى بائع المشروبات اختفى.. لا شيء على الإطلاق أكثر من صوت القطار الرتيب وهو يصطدم بقضبان حديدية ملساء ويرتفع معها وينخفض ويهتز ولكنه يتقدم للأمام بلا توقف.

أجلت نظري في الجالسين.. كانوا نياما.. اختلفت زوايا ميل مقاعدهم بين جالس ومسترخ ونائم. واتجهت رؤوسهم إلى يمين ويسار وإلى أمام وإلى أوضاع لا توصف لكنهم كانوا جميعا مستغرقين في النوم.

تمنيت أن يحدث أي شيء يبدد ذلك الصمت حتى لو يمر بائع المشروبات ذو النظرة اللزجة اللحوحة لعلي أسأله.. أتحدث إليه فقد يبدد ذلك الصمت المخيم على كل ما حولي.. لكنه لا يفعل.. سبع ساعات قطعها القطار حتى الآن ولم يصل إلى وجهته بعد.. وعلى قدر علمي فالمسافة قصيرة بين المحطتين.. قال لي أحدهم مرة انها تستغرق قرابة الساعتين.. بينما أكد صديق آخر حكيت له عن نيتي في السفر بأنها ستمر كغمضة عين في ذلك القطار الفاخر.. سارعت كعادتي في إلقاء اللوم على الساعة.. ثم على نفسي لغفلتي ثم على نومي لفترة.. ثم لم أجد أحدا ألمه.. فقنعت بالسكوت.

حاولت أن استبين شيئا من نافذة القطار القريبة وهو يقطع طريقة وسط الحقول.. حقيقة لا أرى حقولا.. ولكني أعرف أنها هناك.. وحين نظرت إلى الظلام في الخارج لم أر شيئا.. كان الزجاج يعكس صورة عربة القطار من الداخل.. مقاعد حمراء وأنوار بيضاء.. أناس نائمون.. ووجهي.. أعرفه حين أراه.. كان ينظر إلى من خارج زجاج النافذة.. نظرة غريبة دفعتني لأن أرتد سريعا إلى جلستي الأولى.. نظرت من جديد إلى ساعتي.. الوقت يمر سريعا.. فلقد رأيت العقرب الصغير ينزلق مسرعا على السطح الأملس يلاحقه العقرب الكبير.

رفعت يدي وأسندتها إلى ذقني.. اللعنة عليها من ذقن.. لقد حلقتها قبل أن أركب بقليل.. وها هي تنمو من جديد تتحداني.. اعتدلت.. ثم قررت الوقوف.. مضيت بين صفوف المقاعد.

كل شيء هادئ.. غطيط النائمين المزعج يشبه صوت طفلة أجبروها على الغناء ومن خلفها تتصاعد الأنغام اللا متواكبة من آلاف العازفين المختفين في عجلات القطار الذي يشق طريقه للأمام.

وصلت إلى آخر العربة.. فتحت الباب أغلقته ثانيا.. قررت أن أدخل الحمام.. الباب مغلق.. انتظرت.. مرت قرابة نصف الساعة.. ولا أحد يخرج.. لابد أن أحدهم قد نام بالداخل.. فتحت باب العربة التالية.. لدهشتي كان الجميع نياما.. نفس الأوضاع المختلفة. نفس العيون المغلقة.. ورائحة النوم تخيم على المكان.. وصلت إلى نهاية العربة ومن خلال بابها دخلت العربة التالية التي تليها وهكذا.. كان الجميع نياما.. لا يخلو الأمر من عين تفتح متثاقلة لترى ذلك المخلوق الغريب الذي لا يزال سائرا في القطار.. أو من إشارة أصبع مترددة يرتفع تجاهي.. بل إن أحدهم قال شيئا لم أفهمه.

واصلت السير حتى القاطرة.. لابد أن أفهم ماذا يجري في هذا المكان.. فتحت باب القاطرة.. كان الحديد يقاومني.. لكني استطعت التغلب عليه، ودخلت، كان الهواء باردا يدخل عبر فتحات النوافذ المتراصة على الجانبين. وكان الظلام شديدا.. فلم يكن هناك سوى مصباح صغير معلق فوق مقعد السائق..

اقتربت منه.. لا أرى شيئا.. صرت في مواجهة المقعد.. وهنا أدركت الحقيقة.

كان المقعد خاليا.. لم يكن هناك أحد بالقاطرة.. أحسست برغبة عميقة في الصراخ.. أو قد أكون صرخت بالفعل، ولكن الصوت ضاع وسط الجلبة والضوضاء الصادرة من القطار الذي كان لا يزال يقطع طريقه إلى الإمام ولا يتوقف أبدا.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد