هناك الكثير من المعوقات للتواصل والحوار بين الثقافات والحضارات والمجتمعات، ولعل أبرزها يتمثل في الآتي:
1 - التطرف والغلو، فالمتطرف والغالي في أمر من الأمور يغلق عينيه ويصم أذنيه عن
كل رأي مخالف، وليس لديه استعداد لسماع وجهات النظر الأخرى، فهو يرى أنه على صواب، وأن جميع من يخالفه على خطأ، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الغلو في الدين عندما قال: (إياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك من كان قبلكم بالغلو في الدين)، وحذر من التنطع والتجاوز للحدود في قوله: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً.
2 - عدم الاعتراف بالآخر، فالتواصل والحوار لا يتم إلا بالاعتراف بالآخر، وبدون ذلك لا يمكن أن يكون هنا حوار ولا تواصل، والإسلام في مواقفه كلها يعترف بالآخر، ويضعه في الموقع المناسب له، فقد اعترف بأهل الكتاب، ودعا إلى محاورتهم، واعترافه بأهل الكتاب، لا يعني اعترافه بمشروعية ما هم عليه، ولو فعل ذلك لا نتفت الحاجة إلى الدعوة الإسلامية، أما وضع كل في الموقع المناسب له فيتضح من الحديث عن النصارى وأنهم أكثر الناس مودة للذين آمنوا، وعن اليهود والمشركين بأنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، وتمر القرون لتثبت صحة هذا الحكم، فلم يكن اليهود في يوم من الأيام من المحبين للمؤمنين.
3 - التعصب وتضخيم الذات، فالمتعصب لا يرى إلا الفكرة أو الجهة التي تعصب لها، ولا يؤمن إلا بها، وليس لديه استعداد لفهم الآخر والتحاور معه والتواصل مع ما عنده، فهو يرفض الغير جملة وتفصيلا، ولعل فرعون أوضح مثال للتعصب، ولتضخيم الذات، فهو يعتبر نفسه إلها لسكان مصر، وأنه هو ربهم الأعلى، ولهذا لم يقبل بالحوار، وأصم أذنيه، وأغلق عينيه وقلبه عن دعوة موسى عليه السلام.
4 - الجهل، فالناس أعداء لما يجهلون، والجاهل يرفض غيره لعدم معرفته بما لديه مما يمكن الاستفادة منه، والجهل هنا نسبي ومتعلق بالموضوع الذي يمكن أن يدور حوله الحوار، أو الجهة التي يجب أن يكون معها الحوار.
5 - المراء، وهو الجدال لإبطال رأي الغير بهدف الإبطال والتعمية، قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} (سورة الشورى 18).
6 - الغضب، الغضب والثورة والانفعال الشديد من معوقات التواصل والحوار، فالغضبان يهيج، وتتعطل كلياً أو جزئياً وظائف العقل عنده، وقد يجنح إلى الصراع والقتال بسبب غضبه وعدم قدرته على التحكم في نفسه، قال صلى الله عليه وسلم لمن طلب منه النصيحة (لا تغضب) وكررها ثلاث مرات، وقال عليه السلام (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
7 - عدم وجود قواسم مشتركة: فالتواصل والحوار لا يتم إلا إذا كان هناك قضايا يلتقي حولها الطرفان مثل السعي لإحلال السلام، أو الرغبة في إقامة العدل وغير ذلك من القيم والأخلاق والقضايا المشتركة بين الحضارات والمجتمعات، ومن أجل ذلك دعا الإسلام أصحاب الشرائع والمناهج المختلفة إلى التسابق في فعل الخير باعتبار ذلك عنصراً فطرياً يجب أن يجتمع حوله، ويسعى له جميع الناس، قال تعالى: { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (سورة المائدة 48)، يضاف إلى ذلك أن الإسلام يمتاز في حواره مع أهل الكتاب بإيمانه بجميع الرسل والديانات السماوية السابقة، بل إنه يعتبرها جميعاً ديناً واحداً هو الإسلام، قال تعالى: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ} ( سورة آل عمران 19)، وقال سبحانه: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} ( سورة البقرة 285).
وحتى ينجح الحوار ويؤتي أكله، ويصل إلى غاياته، لابد أن تتحقق له مجموعة من الشروط، نوردها فيما يلي ونورد أدلتها في الإسلام:
1 - تساوي الطرفين المتحاورين، واعتراف كل طرف بالآخر، وعدم التقليل من شأنه فضلا عن احتقاره وازدرائه، وقد أرسى الإسلام مبدأ المساواة بين البشر في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات 13) وقول الرسول صلى الله عليه وسلم (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وقوله صلى الله عليه وسلم (لا فرق بين عربي وأعجمي وأبيض وأسود إلا بالتقوى) فعندما نتحاور مع الآخر نعلم أننا جميعا ننحدر من أصل واحد، وعندما نتحاور مع الآخرين نعلم أن الاختلافات التي نشأت بين البشر هي مدخل للتعارف والتواصل والتآلف، وليست مدخلا للصراع والتنازع والتناحر والاختلاف.
2 - البعد عن عوامل التهديد والإكراه، قال تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(سورة البقرة 256)، وقال تعالى: { مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} (سورة المائدة 99)، وقال تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (سورة النور 54)، وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} (سورة يونس 99).
3) أن يكون هناك قضية للحوار، وأهم قضية للحوار يهتم بها الإسلام هي عبادة الله وجعل الحاكمية له وحده سبحانه، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (سورة آل عمران 64) وقد اشتملت هذه الآية على شروط نجاح الحوار، (فتعالوا) دعوة لا تهديد فيها، وقوله (بيننا وبينكم) فيها مساواة بين الطرفين، و(كلمة سواء) و(ألا نعبد إلا الله) تحدد موضوع الحوار، والهدف المحدد هو عبادة الله، وألا يتخذ بعضنا بعضا أرباباً من دون الله.
4 - أن تكون هناك أهداف محددة وواضحة للحوار، فالأنبياء في جميع حواراتهم مع قومهم كان هدفهم هو تعبيد الناس لله وحده لا شريك، والمثال على ذلك يتضح فيما ذكره الله سبحانه وتعالى على لسان نوح { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ {1} قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ {2} أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ {3} يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ {4} قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً {5} فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً {6} وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً {7} ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً {8} ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً {9} فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً {10} يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً {11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً {12} (نوح).
5 - توفر المناخ الملائم والمناسب للحوار، والبعد عن الأحكام المسبقة، والعقد النفسية، والبعد عن التعالي، وعن الإكراه أو محاولة الإكراه، واستبعاد جميع عوامل الكراهية، والعقد الموروثة، المواقف التاريخية التي لم نشارك فيها، ولهذا يجب ألا يكون لها تأثير علينا، وإذا كان الحوار برعاية طرف ثالث فيجب تجنب ممارسة الضغوط على طرف دون آخر، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ}(سورة الحجرات 12).
6 - الاستمرارية والتجديد، وذلك بأن يكون الحوار جزءاً من الثقافة، يطبق في جوانبها المختلفة، مثل الأسرة، والعمل، والمدرسة، والمؤسسة الحكومية والخاصة، فمعالجة الأمور تحتاج إلى استمرار التحاور والتواصل وتبادل وجهات النظر والأفكار، والبحث المستمر عن عوامل الاتفاق واللقاء في سبيل الوصول إلى الحقيقة، وحل المشكلات بالتي هي أحسن.
*أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية.
zahrani111@yahoo.com