أخيراً وافق مجلس الوزراء العراقي، يوم الأحد الماضي على اتفاقية الانسحاب من العراق التي كانت إدارة بوش تفاوض العراق عليها منذ عام، وفيها تنسحب أمريكا من العراق خلال ثلاث سنوات، أي بنهاية 2011م، ويتبقى أن يصادق على هذه الاتفاقية البرلمان العراقي.
وورد في الاتفاقية أن بدء الانسحاب سيكون في منتصف شهر يونيه من العام القادم، ويذكر الأمريكان أن الاتفاقية ستتيح الفرصة للتحول من مجابهة العراقيين مباشرة إلى مساعدتهم، أما العراقيون فلا يزالون يطالبون بالتحكم الكامل بأمورهم والانسحاب السريع. ويعتبر هذا الاتفاق حلاً وسطاً بين الإدارتين الأمريكية والعراقية. أما المعارضة ضدها فتأتي من مقتضى الصدر الزعيم الشيعي، وهنالك معارضة من الجانب السني، فيرى عضو البرلمان صالح المطلق أن الاتفاقية يجب أن توضع للاستفتاء العام، أما علي السستاني فيؤيّدها. وإن تم الاتفاق النهائي عليها من قِبل العراقيين، ممثلين ببرلمانهم، فستكون الاتفاقية بمثابة خارطة الطريق للانسحاب الأمريكي، بعد ثماني سنوات من الغزو والاحتلال للعراق.
والوصاية الأجنبية على العراق تنتهي بنهاية ديسمبر من هذا العام، والمطلب العراقي الأساس هو استعادة بلادهم واستقلالهم، هذا جانب ضاغط على الإدارة الأمريكية، وثمة ضغوط من داخل أمريكا للتسريع بالخروج من العراق. أما أوباما، الرئيس الأمريكي المنتخب، فصرح مؤخراً، من خلال البرنامج التلفزيوني (ستون دقيقة)، بأنه سيبدأ بتنفيذ خطة انسحاب من العراق، وكان وعده عام 2010م. والحقيقة التي لا مراء فيها أن هنالك أشخاصاً يريدون المكوث أكثر، وعلى افتراض عودة أعمال تمرد في العراق، فسوف تتأثر خطة الانسحاب بها، وهنا فإن الانسحاب مسألة ترتبط بها أمور كثيرة، ولا يعتبر أمراً مسلماً به. كما أن هذه الاتفاقية، ولو تمت في عهد إدارة بوش، فهي ليست مقيّدة للإدارة الأمريكية القادمة. والمعلوم أن البون شاسع، فيما يتعلّق بالانسحاب من العراق، بين الجمهوريين والديمقراطيين، أثناء الحملة الانتخابية: مكين كان يقول: (لو تطلب الأمر 100 سنة لمكثنا)، أما أوباما فكان يذكر أنه سيبدأ بسحب القوات فور تسلّمه السلطة خلال 16 شهراً. ثم قد يأتي تمديد مكوث القوات الأمريكية من العراقيين، فلا شيء في الاتفاقية ما يمنع العراق طلب ذلك، عندما يوشك هذا الاتفاق على الانتهاء. ولنقل، والله أعلم، أن معظم القوات العسكرية الأمريكية ستنسحب ضمن حد أدنى (16 شهراً) أو أقصى (36 شهراً).
أما الجناح الصدري، المعارض لبنود اتفاقية الانسحاب، فيحتل 30 مقعداً من مجموع 257 في البرلمان العراقي، ويقول عن حكومة المالكي إنها حكومة معينة من قبل المحتل. وإن لم يناقش موضوع الاتفاقية في أقرب فرصة من قبل البرلمان العراقي فسيؤجل إلى ما بعد الحج. ومسألة الانسحاب لها جانبان عسكري وسياسي، والأمران مرتبطان ببعضهما. يقول العسكريون الانسحاب أفضل ما يكون عندما يكون العراق جاهزاً للإمساك بزمام الأمور، ويصر السياسيون، لأنهم يمثّلون التابعين والمؤيّدين لهم، على الانسحاب الفوري وغير المشروط والشامل. والسؤال هنا: هل هذا التباين مرده إلى عدم معرفة كل من الطرفين بأحوال الآخر، العسكري ينطلق من وجهة نظر عسكرية - تكتيكية - براقماتية، والسياسي لربما ينطلق من وجهة نظر سياسية - اجتماعية - انتمائية.
ويزيد من الأمر تعقيداً التدخل الخارجي، وفي هذه الحالة إيران بالطبع، التي هي جزء من المعادلة العراقية من أيام صراعها العسكري مع العراق، مروراً بالتدخلات الأمريكية في المنطقة وانتهاءً بإزاحة صدام والتوغل الإيراني الجيوستراتيجي في جنوب العراق. والمعروف أن إيران استثمرت الاحتلال لصالحها وأسهمت في تمكين الطائفة الشيعية من السيطرة على المسرح السياسي العراقي. وما دام الوضع الآن يرجح كفة الشيعة في العراق، وفي ضوء ترشيح أوباما للرئاسة الأمريكية، فلقد هدأ روع الإيرانيين وأصبحوا يميلون إلى تأييد اتفاقية الانسحاب، ولقد هنأ أية الله شروتي العراقيين بوصولهم لهذه الاتفاقية.
والعلاقة بين ما يحصل على الساحة العراقية عسكرياً، أو ما تتمخض عنه اتفاقية الانسحاب الأمريكي من العراق، وما يحصل في أفغانستان والباكستان، علاقة هي الأخرى فيها شيء من التعقيد، فاستقرار الوضع في العراق سيترتب عليه نقل قوات عسكرية منه إلى أفغانستان. والحدود الشرقية لإيران نصفها الشمالي مع أفغانستان والنصف الجنوبي من هذه الحدود الشرقية لإيران مع باكستان، و تمتد الأذرع الإيرانية في كل اتجاه: شرقاً نحو الدولتين المذكورتين وغرباً مع العراق وجنوباً وجنوباً بغرب تمتد حدودها على طول ساحلها على خليج عمان والساحل الشرقي للخليج العربي.
الوضع السياسي - الاقتصادي في أفغانستان يعزّز المد الطالباني ضد حكومة كرزاي، والصراع الهندي - الباكستاني يضعف الوضع في باكستان، سياسياً واقتصادياً. ولربما التحالف الإيراني - الأمريكي قادم، إذا لم تستطع أمريكا إيقاف نشاط إيران النووي، من قبيل (مكره أخاك لا بطل) ومن ناحية أخرى تكون أمريكا ضاربة أطنابها في المنطقة (شرق إفريقيا والشرق الأوسط ووسط آسيا) التي يشرف على القوات الأمريكية فيها الجنرال بترايس، ومن خلال قواعدها في العراق، حتى بعد انسحاب معظم جنودها فيه، ومن خلال تحييدها لإيران لمصالحها.
وتمرد القاعدة وتمركزها في أفغانستان يمكن أن يقارن بالعراق، الذي آثرته إستراتيجية بوش - شيني: أفغانستان أكبر مساحة من العراق وتستمد القاعدة تأييداً قبلياً قوياً فيها، إضافة إلى تغلغلها في المنطقة الحدودية الأفغانية مع الباكستان الجنوبية الشرقية، أضف إلى ذلك تحالفاً عسكرياً أجنبياً ضعيفاً. وإذا كانت السياسة للإدارة الأمريكية القادمة (إدارة أوباما) ستركز على نقل جنود من العراق إلى أفغانستان، فلن تنجح. الوضع في أفغانستان يحتاج، بدلاً من المزيد من الهدم، إلى الكثير من البناء، يحتاج إلى تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية، وذلك ما اعترف به كرزاي الأفغاني، وهو اعتراف بالحقيقة. أيها الرئيس المنتخب والمرتقب أوباما: لا تقع في أخطاء بوش - شيني الشنيعة واجنح نحو سياسة جديدة تؤسس وتبني ولا تهدم، فهنالك بشر في أمس الحاجة إلى أساسيات الحياة، وطبعاً يوجد غيرهم من الملايين في أنحاء متعددة من كوكب الأرض. فلتتبع سياسة جلب دول قادرة للمشاركة بمواردها وخبراتها في الحوار وفي البناء، وليس بقواتها للهدم والقتل والقمع. يطلب الأمريكان مشاركة بعض الدول بجنود لتعزيز الوضع العسكري في أفغانستان، وتعد دولة مثل ألمانيا على استحياء بإرسال ألف جندي، فهل ستستمر أمريكا حاملة للعصا الغليظة لتأديب من حاد عن الطريق؟
ليس الحل في أفغانستان، ولا في العراق، ولا في سواهما عسكرياً فقط، بل سياسياً واقتصادياً. ينتقد الأوربيون الأمريكيين لانفرادهم باتخاذ القرارات، ولكن على استحياء، فالدول، مثل الأشخاص، يجامل بعضها بعضاً، ويروح الضحايا الكثيرون بسبب المجاملات السياسية. لا تنمية ولا حياة بدون أمن ولا أمن بدون تنمية اقتصادية واجتماعية وسياسية شاملة. والانقسام الديني - القبلي يستغل من دول لصالح أخرى، الانقسام القبلي أشد ضراوة في أفغانستان من الانقسام الديني في العراق، وهذا الأخير تم استغلاله من قِبل إيران. السنة في العراق يقولون إن تسليح الشيعة يشكّل خطورة عليهم بعد انسحاب الجيش الأمريكي، إذ لا بد من بناء الشرطة وقطاعات الأمن الأخرى بناءً قوياً ليوطد الأمن، وإذا ذاق الناس طعم الأمن ولذته فلن يختاروا بديلاً عنه. ويزيد من الأمر تعقيداً، ويضع عراقيل أمام الحل السياسي والاقتصادي الأزمة المالية الدولية التي تستشري وتنتشر هنا وهناك.