Al Jazirah NewsPaper Sunday  23/11/2008 G Issue 13205
الأحد 25 ذو القعدة 1429   العدد  13205
وِينْ المرازيم ؟
د. عبدالمحسن محمد الرشود

عندما كنا نسكن بيوت الطين، وسط الحارات المتداخلة في إطار صغير في مدن المملكة جميعها قبل الطفرة والخطط الخمسية - غير المعمول لها - نفرح بالمطر وبهطوله الغزير.. والرِّشاش والرذاذ.. وتسمع أصوات الرجال والشباب، وصغيرات الحارة.. المطر.. المطر.. ولأن البيوت طينية.. تذوب مع المطر الغزير المتواصل، فإن (أهل الحارة) يساعد بعضهم بعضاً بتنظيف المجاري العلوية وهي عبارة عن (مرازيم) أنابيب صغيرة تنقل مياه السطوح وتدفعها إلى الممرات الطينية أيضاً التي لم تُسفلت مثلما هو الحال الآن.. ويتدافع الشباب ويلبسون خياشاً فوق رؤوسهم تحميهم من المطر، وترى (المساحي) جمع مسحاة بين الرجال لتنظيم مجاري المياه ليأتيها المطر ولإبعادها عن الركود تحت المنازل مما يؤدي إلى سقوطها.. وفي وسط كل حارة (قليب) وهي الأرض المحفورة مثل الخزان الكبير يلتهم مياه الحارة وأمطارها وأوساخها مثل القمامة والكفرات والأخشاب وغيرها.

كان المطر يغسل الأنفس الطيبة والأرواح النقية، والبسيطة قبل أن تأتي أموال البترول (النفط) ل(تشقلب أبو أرواحنا) وصفاءنا نقاءنا.. كان المطر يهمي على العيون، والخدود والشفاه، فتحس برائحة المطر وبلدونة الأيدي ونداوة الوجوه قبل أن يغسل سطح المنازل الترابية والأسمنتية.. ثم ترقص الحارة طرباً والمياه تسري والسيارات ترقص - على قلتها - بين أطيان الطريق الذي أصبح (بركة طينية) وتزحف رغماً عن السائق يميناً وشمالاً (حتى السيارات ترقص).. يا له من مطر.. يا له من مطر.. عندما يهمي المطر تتداخل صباحات الحارة مع الظهيرة المغيمة وتشتبك بالأماسي على أنغام (جينا من الطايف والطائف رخا والساقية تسقي يا سما سما..) لطلال مداح.. وأرسل سلامي مع نسيم الصباح لسعد إبراهيم، وفوق الرمال الحمر لأحمد السعد.. (وهيجت ذكراك حبي واستبد بي الأنين) لعبد الله محمد.. كان المطر يعكس واقع الناس وبساطتهم.. يجمعون ما تيسر لهم من حطب وقهوة وشاي ولحم قليل (وصندوق بردقان) (برتقال) ويستأجرون (وانيت) سيارة (نقل) تأخذهم إلى البر.. كان البر نظيفاً كنظافتهم.. وكانت سماؤهم أجمل وأرق من سمائنا الملوّثة!! وينصبون الخيام.. ليست عائلة واحدة.. بل عوائل لا يدخل الشيطان بينهم، ويختلطون صغارهم وكبارهم (وليس يختلون) فترى ابنة العم تحمل البساط مع ابن عمها وعلى الرغم من حبّه الشديد لها الصادق إلا أن روحه وقيمه ومبادئه وطيب معدنه وأصالته ونقاء سريرته - التي لم تلوثها المدنية - تمنعه من أن يفكر في الاستفادة من هكذا لقاء.

كان الناس أناساً حقيقيين.. بلا زيف بلا أطماع بلا كذب.. كان المطر مجرد دشٍ يُلقى على الناس ليصقل سريرتهم البهية.. كان البر مملوءاً بالجمال.. رائحة المطر.. والعشب الأخضر وشجر البقري القرقاص والحميض، والحرمل والنفل والخزامي وأنواع كثيرة كالبسناس (فصّ عنصل) في مناطق الوشم، والعرجون والطرثوث وغيرها.

ثم يقوم هؤلاء الناس بإضرام النار (شبة النار) وقربها الدلال والأباريق والفناجيل والبيالات ..آه يا زمان.

ويلتمّ شمل ليس أسرة أو عائلة بل أُسر وعوائل مع بعضهم ويغُنون ويرقصون ويتسابقون ويتضاحكون وينشدون من الشعر ما ينشدون.. (كل هذا قبل أن يأتي (أهل الصحوة) فيصحونهم من سعادتهم تلك!! ويدخلونهم إلى متاهات الممنوع.

رائحة النار.. تعبق في المكان.. والهواء العليل.. والكثبان المتراصة.. والمطر يهمي قليلاً والعشاق وحدهم يذهبون إلى الأماكن البعيدة العالية (الرجم) أو رأس الطعس (يناجون أنفسهم ويرددون قلبي اللي لواه من الصواديف لاوي).. كفاني عذاب الله يجازيك بأفعالك، وقد تنهمر دموع الحب على انفراد لا يحس بها سوى خدود دامعها لا يريد أن يُكشف سرّ ذلك الغرام الطاهر النقي.. وذلك احتراماً.. للحبيبة وأهلها.. أوليس حباً صدقاً.. ليس مثل حب هذه الأيام.. ذلك الحب الذي قلّمت أظافره الفضائيات، والأسواق والأسفار والمسجات، والقنوات!! وأغاني الطقطقة.. والشعراء الأطفال.. ليس الحب فقط من تغير.. نحن من تغيّر.. أولا ترون أن طعم المطر أيضاً قد تغيّر.. في بيتنا مطرنا اليوم.. لا نراه إلا في السيارات.. أو من خلال نوافذ الفلل الفارهة لا نحس برائحته لأننا نفتح النوافذ ونغلقها بسرعة لئلا تتسخ الستائر أو نصاب بالبرد (الإنفلونزا) والمطر رائحته مصبوغة بعبق الإطارات، والإسفلت، والزيوت و(حصبات البلوك) المصنعة وأبخرة السيارات (العدمانة) وكربون الناقلات.. ياه.. تغيّر المطر.. نغلق النافذة نتجه للقنوات، النتّ، أو المكالمة الخادعة!!

أما في البرّ فمجموعة خيام فارهة.. وكرفانات ملأى بدورات المياه وأنواع من الكنبات، وطباخين، وسواقين، وقهوجية وصبابات وطقاقات ومغاسل يشرف عليها أصحاب المخيمات المستأجرة والوايت واقف والنار.. النار ما يقعد عندها سوى السواقين لأننا ننتظر المغرب لنعود للمدينة..

ننام في البر!! لا يمكن، يمكن يطلع ضب ولا حية (ياي) والبلوتوث ما ينفع في البر ليش نقعد.. يا ليل يا عين. وبر آخر زمان.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد