النخب المثقفة التي تنظر إلى أوضاعها الفكرية والثقافية بمنظار العقل والمنطق والنقد والغوص في (المتغيرات)، ومحاولة فهمها، ومن ثمّ التماهي مع هذه المتغيرات من خلال محاولة تطوير الأوضاع الفكرية بما يتناسب مع مصلحة الإنسان هي دائما بمثابة (الجسر) الذي تعبر من خلاله الإنسانية جمعاء إلى معالجة أمراضها التي راكمتها الأحداث، وأفرزها التاريخ والظروف، وجعلها تحيد عن العدالة إلى الظلم، وعن العقل (النير) إلى الأساطير الموروثة التي كانت سبباً فيما شهده العالم من كوارث إنسانية.
هذا ما يتبادر إلى ذهني وأنا أقرأ خبراً مفاده: (وقع 11 مثقفا شيعيا بينهم 7 سعوديين بيانا دعوا فيه إلى تصحيح مسار الطائفة الشيعية في العالم العربي، وإجراء مراجعة فكرية لأركان أساسية في المعتقدات الشيعية وخاصة (ولاية الفقيه)، ومسألة (التقليد) و(إعطاء الخمس لعلماء الدين)، و(ممارسات التطبير والدق على الصدور في طقوس عاشوراء). وجاء في البيان: (توصلنا إلى قناعة برفض الكثير من المعتقدات والأحكام الشرعية التي ننظر إليها كعائق حقيقي أمام شيوع وتجسيد قيم المحبة والتسامح مع إخوتنا من أبناء المذاهب الإسلامية فضلا عن الأديان الأخرى). وجاء فيه كذلك: (نرفض رفضا باتا قذف الخلفاء الثلاثة السابقين على الإمام علي بن أبي طالب؛ إذ إن قذفهم أمر لا جدوى منه ولا خير فيه ومدعاة للفرقة والانشقاق، ونطالب بتجاوز كافة عبارات الشتم والسباب واللعن الواردة ضدهم في التراث الشيعي، وذلك باعتبارهم رموزاً تاريخية محترمة عند معظم المسلمين، كما ندعو إخواننا السنة إلى مثل ذلك).
من يقرأ البيان يجده يحمل في مضامينه تحدياً كبيراً (لتجيير) الدين لخدمة أشخاص بصفاتهم، أو أنظمة، أو ما يسمى (نظرية ولاية الفقيه)، واستغلال (الخمس) لدعم وصاية علماء الدين الشيعة وسيطرتهم على الإنسان، ومقدرات الإنسان، ومشاركته في كسبه وعرق جبينه؛ وكذلك تكريس الخلافات (التاريخية) لخدمة زعماء الطوائف بما يضمن إبقاء نار الطائفية مشتعلة كي يتنفذ رؤوس الطوائف من خلال أتونها. أن تتحدى هذه الطقوس (الكهنوتية)، وتقول لها بملء فمك: (لا)، فأنت تصنع التاريخ، وتبدأ في تصميم المستقبل المشرق، وتخرج من الظلام إلى النور. والطريق الطويل - كما يقولون - يبدأ من خطوة واحدة؛ وضوء شمعة صغيرة في النفق المظلم أفضل من الظلام الدامس.
ونظرية (الولي الفقيه) تحديداً، لم تبق في نطاقها الجغرافي الإيراني، أو حتى الشيعي، منذ انتصار ثورة الخميني وحتى الآن، وإنما تأثر بها أبناء الطائفة السنية أيضاً؛ فما نشهده من (تقديس) لأقوال بعض الفقهاء السنة، والحث على (تقليدهم)، وعدم الخروج على اجتهاداتهم وفتاويهم قيد أنملة، هو في المحصلة النهائية ضرب من ضروب (ولاية الفقيه). ورغم أن مدرسة أهل السنة والجماعة لم تعرف قط في تاريخها هذه البدعة، ولم يقل بها صراحة أي من الفقهاء السابقين واللاحقين، إلا أن مضمون خطاب بعض الفقهاء السنة (المعاصرين) يؤدي في المحصلة إلى أن يكون (للفقيه) ولاية وتحكم وسيطرة في أمور الدين والدنيا معاً.
أن ينقد نظرية ولاية الفقيه أهلها، بهذه القوة، هو دليل على سقوط هذه النظرية، التي يحاول البعض - ولو على استحياء - ترسيخها في مجتمعاتنا، فإذا سقطت في عقر دارها، فستسقط حتما في المناطق المتأثرة بها في الخارج. من هنا تأتي أهمية هذه الوثيقة التاريخية.
إلى اللقاء.