Al Jazirah NewsPaper Thursday  20/11/2008 G Issue 13202
الخميس 22 ذو القعدة 1429   العدد  13202

الشيخ سعيد اليمني بين مسيرة الخير وشهود الأرض
عبدالله بن عبدالرحمن اليمني

 

الموت حق لا ريب فيه ولا شك؛ قال تعالى {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}. وموقف الناس مع الموت يوضحه الحسن البصري - رحمه الله - بقوله: (ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت)؛ فالموت حق ويقين، وحال الناس وغفلتهم تجاهه كأنها شك لا يقين فيه. وفي لحظة نزول الموت على قريب بينك وبينه ود ومحبة ترى الحياة في عينيك كأنها أحلام وسراب بقيعة، قال أحمد شوقي:

الأماني حلمٌ في يقظةِ

والمنايا يقظةٌ من حُلمِ

والله - عز وجل - بحكمته البالغة جعل بعض عباده منارات يُقتدى بهم في الخير لترى الأجيال المعاصرة بأمّ عينيها نماذج من القدوات العملية؛ لتكون لها نبراساً تسير على نهجهم وطريقتهم وسيرتهم في الخير. وقضاء الله وقدره نافذ وواقع لا محالة؛ ففي ضحى يوم السبت الموافق 18-10-1429ه توفي الخال الإمام الخطيب الزاهد الشيخ سعيد بن راشد بن سعيد اليمني، إمام وخطيب جامع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في الملز منذ عام 1389ه، فكانت مصيبة عز عليّ مسمعها وأثر فيّ موقعها وهزّت كياني هزاً، ف{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وهذا حال الدنيا، تجمع وتفرق، وقد كنت هاتفته قبل موته بسويعات أخبره بأن أحد الجيران ماتت والدته - رحمها الله - لكي يعزيه، فقال غداً إن شاء الله، فيا سبحان الله أصبح المعزي يُعزى فيه. وبعد انتشار خبر موته في لحظات أصبح لسان حال الرياض، خاصة حي الملز، يقول مات اليوم شهم من شهامها، وكريم من كرمائها، ورجل صدق من أفذاذها؛ فقد جمع الله له من صفات الخير ما افترقت في غيره، فإن تحدّث الناس عن الكرم فثمّ هو، وإن تحدّث الناس عن المواضيع وسلامة الصدر ونقاء السريرة وصفاء القلب وكف اللسان والصبر عند البلاء فله الصدارة والسبق، إن حضر في مكان عُرف، لا تكاد تخطئه العيون، وإن غاب فُقد، إن رأيته من بعيد هبته، وإن قربت منه أحببته، تجد في كفه اللين، وفي محياه الابتسامة البهية المشرقة، يعرفه الكبير والصغير، عرفوه في محرابه تالياً لآيات القرآن المجيد، باكياً خاشعاً ذا صوت رخيم، منضبطاً في أوقات الصلاة، قلّ أن تجد له نظيراً، عرفوه على أعواد منبره خطيباً مصقعاً وواعظاً ومعلماً، ومن العجيب في مسيرته الخطابية التي ألقى فيها أكثر من ألفي خطبة على مدى أربعين عاماً أنه نهج منهج الوسطية في معالجته للأحداث النازلة، فلم يعهد عنه خلال السنوات الطوال التي قضاها في الخطابة مع ما فيها من فتن وأحداث أنه شط بكلمة أو موقف لاكه الناس وتناقلوه، وإنما منهجه التوازن التعقل والحكمة والتوجيه النير الرشيد وتوضيح مقصد الشرع وأحكامه بأسلوب بين الغالي والجافي، وبرهان هذا قوله في خطبة ألقاها في عام 1397: (إن السبيل الوحيد هو التوجيه الصالح الرشيد الذي يتضافر عليه البيت والمدرسة والإذاعة والصحافة والعلماء والقادة.. كل أولئك يجب أن تتضافر جهودهم لتوجيه الشباب إلى الخير وقيادتهم إلى أقوم السبل في أقوال تصدقها الأفعال..).

إن أردت أن تدخل السرور على أبي فيصل فانزل عنده ضيفاً، وإن أردت أن تنفتح لك أسارير وجهه فاسأله عن المسجد وأحواله؛ فقد كان قلبه معلقاً بالمسجد، وكان يستعد لكل صلاة قبل الأذان بوقت كافٍ، وكان باراً بوالده - رحمه الله - يطيعه ويحسن إليه، فكأنهما صديقان حميمان، وبعد وفاة والده عاش أبو فيصل 28 عاماً يصل ود أبيه، وهذا من بر الوالد بعد موته، وعُرف أبو فيصل ببره بوالدته - أسأل الله أن يحييها حياة طيبة ويُحسن لها الخاتمة - فهو ملء عينيها صباحاً ومساء، وكان واصلاً لرحمه فيزور كل من تربطه به صلة رحم أو محبة أو صداقة أو جوار، ولا يرى لنفسه عليهم حقاً، وكان حريصاً على إجابة الدعوة ولو بعدت.. ومن صفاته التي لا يعرفها الكثير عنه أنه كان متعاوناً مع رجال الحسبة في التسعينيات، يمر على منازل جيرانه منزلاً منزلاً يأمرهم بالصلاة. ابتلاه الله في السنوات الخمس الأخيرة من عمره بالفشل الكلوي، فكان صابراً محتسباً لا يشكو لأحد، ومع ذلك لم يمت بسبب مرضه، بل مات صحيحاً معافى، وفي هذا العبرة والدرس؛ فالمرض لا يقرب الموت والصحة لا تبعده، وإنما هي آجال محدودة وأنفاس معدودة. رحل أبو فيصل عن هذه الدنيا إلى دار البرزخ تاركاً خلفه ذكراً عطراً وصفات حسنة ومواقف مشرقة، وآثاراً طيبة وباقية، فهو ممن مات شخصه وبقي وصفه، فلن تنساه الأجيال الوفية ولن ينساه محبوه وأقاربه، فهو فقيد الأسرة بحق، وكفى بذلك دليلاً على محبة الناس له في الله، ولله در أبي تمام حين قال:

مَضَى طاهرُ الأثوابِ لم تبقَ روضةٌ

غداةَ ثوى إلا اشتهتْ أنها قبرُ

ومن بشائر الخير لأبي فيصل - رحمه الله - أن جنازته مشهودة مهيبة، صف عليها خلق لا يحصيهم إلا الله، قلتُ في نفسي وأنا أُنزله في لحده (لو رأى أبو فيصل هذه الجموع الغفيرة التي صلّت عليه وشيّعته ودفنته لسُرّ بهم ولأضافهم وأقراهم عنده تلك الليلة؛ فكان يفرح فرحاً شديداً بمن يقبل دعوته). هذه الجموع الغفيرة أتت من كل حدب وصوب تعزي وتواسي، قدموا من مكة المكرمة والمدينة النبوية والرياض والخرج والدلم والأحساء والدمام والخبر والتويم، وهم إما قريب واصل أو جار محب أو صديق حميم أو زميل وفيّ.. وهؤلاء هم شهود الله في الأرض، كما في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال (مُرّ بجنازة فأثني عليها خيراً، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم وجبت، ومُرّ بجنازة فأُثني عليها شراً فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم وجبت. قال عمر فدى لك أبي وأمي، مُرّ بجنازة فأثني عليها خيراً فقلت وجبت، ومُرّ بجنازة فأثني عليها شراً فقلت وجبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار؛ أنتم شهداء الله في الأرض). فلله درك أبا فيصل؛ فقد عشت محبوباً في الله، ومت مشهوداً لك بالخير، فحياتك كلها خير وعطاء، وكنت نموذجاً من النماذج التي تحب في الله وفي أجل الله؛ فلم تكن ذا مال أو منصب تزول المحبة بزوالهما، أما المحبة في الله فهي الباقية في الحياة وبعد الممات، ولله الأمر من قبل ومن بعد.. اللهم ارحم أبا فيصل رحمة واسعة، ونوّر له في قبره، وأنزل عليه شآبيب الرحمة ووابل الغفران، واخلفه في عقبه في الغابرين، وارفع درجته في المهديين، وألهم والدته وأخويه وأخواته وأبناءه وبناته وأقاربه وجيرانه ومحبيه الصبر والسلوان، وعوضهم خيراً، واربط على قلب زوجته كي لا تخاف ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وأن الله سوف يعوضها خيراً وما عند الله خير وأبقى، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. إنه جواد كريم رحيم ودود لطيف بعباده.

mw6816@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد