المصلحة - كما يقولون - هي (غاية السياسي). وهي كذلك منذ أن عرف الإنسان التجمع في تشكلات اجتماعية. لا فرق بين من يدير شؤون قبيلة بدائية في مجاهل افريقيا، أو من يقف على رأس سلطة في دولة من الدول الكبرى. ولا يكبل السياسي شيء مثل أن يضع نفسه ضمن قوالب مسبقة الصنع، فيصبح القالب وليس المصلحة هو الذي له الأولوية، وهو بذلك كمن يسعى إلى (فبركة) رؤوس معينة لتناسب حجم العمائم، فالمهم العمائم وليس مصالح من يلبسونها.
هذا ما دار في ذهني وأنا أقرأ ردود الأفعال التي رافقت مبادرة الملك عبد الله حول حوار الأديان. وأنا هنا لن أتحدث عن ردود الفعل المؤيدة، والمتفهمة، لبواعث هذه المبادرة، وايجابيات الحوار، ولكني سأتحدث عن ردود الأفعال المتحفظة أو الرافضة لمبدأ (الحوار)، منطلقة - في الغالب - من أن الآخر غير المسلم هو عدو، وعداؤنا له، وعداوته لنا، تنطلق من (ثوابت) لا يملك أحد تجاوزها.
هذه النظرة الضيقة تحتاج إلى الكثير من المبررات لقبولها. فالعالم الذي نعيش فيه اليوم، والذي تتشابك فيه مصالحنا بمصالح الآخر، ويعتمد عليه بقاؤنا كدولة، له (متطلبات) تختلف اختلافاً يكاد أن يكون جذرياً عن عالم الأمس. الآخر غير المسلم، والذي يصنف على اعتبار أنه (عدو) هو شريك لنا في عالم أشبه ما يكون بالقرية الكونية. كل الرافضين لهذه المبادرة من هذه المنطلقات هم في الواقع عاجزون عن استيعاب (التغير) الذي طرأ على العالم، وعندما يعجز تصورك عن رؤية هذه الأبعاد، يتعذر عليك أن تفهم الإيجابيات المتعلقة بمصالحنا التي دفعت الملك عبد الله إلى هذه المبادرة.
كان أمام الملك عبد الله أن يبقى كغيره من زعماء الدول العربية والإسلامية في الظل، وأن لا يواجه القضية، وأن يكتفي بالتعامل معها بالتصريحات والمقولات المعلبة التي شبعنا منها طوال العقود الماضية، ولن يلومه - بالمناسبة - أحد. غير أنه اختار الطريق الأصعب، اختار المواجهة على الصمت، والمبادرة بالفعل على الاكتفاء برد الفعل. وهو في اختياره لهذا الأسلوب ينطلق من منطلقين أساسيين:
أولهما: أن الصورة (النمطية) لشعب المملكة، ولقيادة المملكة، تعرضت في العقدين الأخيرين، وبالذات بعد كارثة 11 سبتمبر، إلى تشويه وخلل عميقين بفعل ممارسات وتراكمات وكتابات ومدونات ومقولات لقيادات دينية غير مسؤولة، أثرت تأثيراً بالغاً على مصالحنا الوطنية، وأثارت ضغائن لا قدرة لنا على مواجهتها، السكوت عنها، أو التعامل معها من خلال (اللامبالاة) أو التجاهل أو المكابرة، سيؤدي حتماً إلى نتائج كارثية على كافة المستويات.
ثانيهما: ان التعايش مع الآخر رغم الاختلاف هو (حتم) وليس خياراً، أن نرفضه - لأي سبب كان - يعني أن نقضي على كل ما أنجزه (عبد العزيز) ابتداء من الوحدة، وانتهاء بالأمن والتنمية ورغد العيش الذي نعيش فيه.
لذلك كان لابد لنا من ايجاد وترسيخ ثقافة جديدة (بديلة)، تقوم على أساس (مصلحي)، هذه الثقافة تنطلق من مبدأ (التعايش رغم الاختلاف).
انطلاقاً من هذين المنطلقين، كان من الضرورة الملحة أن نكرس (القيم المشتركة) بين الأديان، ونعمل على تجذيرها، كبديل لكل الدعوات التي تكرس في المقابل العداوة والبغضاء والأحقاد والكراهية، التي لا يمكن تبنيها في عالم يرفض الصراع والقتل والدم من حيث المبدأ، ويدعو إلى السلام والأمن الدوليين.
من يرى الأمور بهذا الأفق الواسع، ويوازن بين المصالح والأضرار، ويخرج من الرؤية الأيديولوجية الضيقة، لا يمكن أن يكون ضد مبادرة الملك عبد الله. وتذكروا دائماً القاعدة التي تقول: (أينما تكون المصلحة فثم شرع الله).
إلى اللقاء..
للتواصل:111ma@live.com