بيت من الشعر كان كفيلاً بحل مشكلة أو رفع وضيع أو تنبيه غافل عن حقه، بيت من الشعر كان ينال ذلك الشرف في زمن غابر وعصور ماضية وفي أسواق أدبية ومحافل قبلية أو دولية. |
وإذا كان النقاد يمثلون على هذه الحقيقة ببيت الخطيئة في بني أنف الناقة فإن الأمثلة كثيرة في تاريخنا الأدبي؛ فكم فَكَّ الشعر من أسير، وأغنى من فقير، وأعز من ذليل.. لقد أنقذ الشعر العربي محكوماً عليه بالقتل فعُفي عنه وخُلّي سبيله، وكانت الأبيات التي قيلت في ذلك درراً من الشعر العربي لم أنسها من أول مرة سمعتها قبل ما يقارب ثلاثة عقود.. ومن الأبيات التي قيلت في ذلك: |
أرى الموت بين السَّيف والنطع كامناً |
يراقبني من حيث ما أَتَلَفَّتُ |
ومن ذا الذي يأتي بعذر وحُجَّةٍ |
وسيف المنايا بين عينيه مصلت |
وما جزعي من أن أموت وإنَّني |
لأعلم أنّ الموت شيءٌ مؤقتُ |
ولكنَّ خلفي صبية قد تركتهم |
وأكبادهم من حسرة تتفتَّتُ |
فإن عشت عاشوا سالمين بغبطة |
أذود الردى عنهم وإن مِتُّ موتوا |
فلما سمعها الخليفة قال: (كاد والله يا تميم يسبق السيف العذل، اذهب فقد غفرت لك الصَّبوة ووهبتك للصبية). |
هذه قصة رواها بعض المؤرخين وبطلاها: الخليفة (المعتصم) محمد بن هارون الرشيد، وتميم بن جميل الخارجي. |
وقبل ذلك بقرنين من الزمان وقف كعب بن زهير رضي الله عنه بين يدي رسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليعتذر عن خطيئته، وكان مما قاله: |
نبئت أنَّ رسول الله أوعدني |
والعفو عند رسول الله مأمول |
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال |
قرآن فيها مواعيظ وتفصيل |
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم |
أذنب وقد كثرت فيَّ الأقاويل |
وقال كل خليل كنت آمله |
لا ألهينك إني عنك مشغول |
فلقت خلُّو سبيلي لا أبا لكم |
فكل ما قدَّر الرحمن مفعول |
وكانت النتيجة أن عفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وأعطاه بردته؛ لذلك سميت القصيدة (قصيدة البردة). |
ومثل ذلك حصل حينما فَرَّ عبد الله بن الزِّبعري إلى نجران بعد فتح مكة لأنه قد هجا المسلمين وأهدر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم دَمَه، فأرسل إليه حسان بن ثابت رضي الله عنه بيتاً من الشعر يقول فيه: |
لا تعدمن رجلاً أحَلَّك بغضه |
نجران في عيشٍ أحذَّ لئيم |
لما سمع عبد الله البيت عاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بعد ذلك - رضي الله عنه -: |
يا رسول المليك إنّ لساني |
راتق ما فتفت إذ أنا بُوْرُ |
إذ أباري الشيطان في سنن الغي |
ومن مال ميله مثبور |
آمن اللحم والعظام لربي |
ثم قلبي الشهيد أنت النذير |
|
إني لمعتذر إليك من الذي |
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم |
فاليوم آمن بالنبي محمد |
قلبي، ومخطئ هذه محروم |
مضت العداوة وانقضت أسبابها |
ودعت أواصر بيننا وحلوم |
فاغفر فدى لك والدي كلاهما |
زللي، فإنك راحم مرحوم |
ذلك ما كان يعمله الشعر العربي الفصيح؛ حيث كان سبباً ل(قرارات) كبيرة في حياة الكبار من الخلفاء والعامة والخاصة في قرون خلت.. فهل ما زالت للشعر تلك المكانة وذلك التأثير؟ وهل يحظى شعراء الفصحى والأصالة بالمنزلة الرفيعة التي كانت لأسلافهم؟ وهل يعرف الناس اليوم للشعر قيمته ويُميزون بين غثه وسمينه؟!! |
أسئلة تنتظر الإجابة في زماننا اليوم.. وهي إجابة ننتظرها فعلاً لا قولاً وتطبيقاً لا تنظيراً.. ولكن السؤال الذي هو أهم من ذلك: هل يستطيع ما يُسَمَّى (الشعر الحديث) وهو المتمرِّدُ على الوزن والقافية أن يرقى إلى مستوى الشعر الأصيل أو يحدث مثل تأثيره في الناس؟.. أمنية يتمنَّاها عشاقه ومشجعوه، ولكن هيهات، ما أبعد الثَّرى عن الثُّريا. |
عبد العزيز بن صالح العسكر – الخرج |
|