أود بداية أن أبيِّن للقارئ الكريم أنني تحاشيت الحديث حول هذا الموضوع فترة طويلة من الزمن, وما ذلك إلا لقناعتي أن الحديث عن هذا الأمر ليس بالأهمية التي يحتاج معها إلى بحث وكتابة وتقصٍ وجمع واقتباس...
.. فما تعاني منه أمتنا أخطر بكثير من بحث ماذا نلبس أو ماذا نأكل. ولكنني الآن أود الحديث في هذا الموضوع لأنه تعدى مسألة ماذا نلبس إلى مسألة دلالة هذا اللباس ومعناه.
كل من يبحث في موضوع حجاب المرأة المسلمة مهاجماً يركز هجومه على كون الحجاب رمزاً لكبت المرأة، ونظرتها إلى جسدها على أنه عار يجب تغطيته، وعلى أن الرجل يجد فيه متنفساً لساديته وتسلطه على المرأة التي يكبس على نَفَسها، ويمنعها من التعبير عن نفسها، وبالتالي فهو لا ينظر إليها إلا على أنها رمز جنسي، وموضع لتخيلاته المريضة المكبوتة. وهو يجد في الحجاب وسيلة لحماية (شرفه) الذي هو المرأة التي تبقى دائماً بحاجة إلى من يحميها ويدافع عنها، لأن كل العيون تترصدها، فهي رمز الفتنة ومصيبة المصائب، فهي إن أقبلت تقبل في صورة شيطان وإن أدبرت تدبر في صورة شيطان.
فالمرأة السافرة في مجتمعنا ليست أحسن حالاً من المرأة المحجبة، لأن الوصاية الذكورية لا تُرفع عنها برفعها للحجاب، بل إن نساءنا عموماً لا يملكن من أمرهن شيئاً، ولا يستطعن التصرف في أحيان كثيرة بأمورهن الخاصة جداً دون العودة إلى الرجل ودون رعاية ذكورية، أخذت على نفسها دور حامي الحمى، والمراقب الخاص لهذا الكائن (المرأة) الذي لم يصل بعد لمرحلة النضج الذي يمكنه من الاعتماد على نفسه وتسيير شؤونه الخاصة دون مساعدة وإشراف.
أكثر ما يزعجني من المهاجمين للحجاب أنهم يغالطون أنفسهم ويتجاهلون حقيقة بعض مجتمعاتنا التي تعامل المرأة على أنها مخلوق أخرق، لذلك فهم يطلقون أحكامهم عليها بالطريقة التي يريدون، فمن يهاجم الحجاب يصفه بأنه كريه وبأنه اعتداء على آدمية المرأة، ويصورون المرأة المحجبة بصورة المرأة المغلوبة على أمرها، والتي مهما بلغت من علم ومشاركة اجتماعية تبقى في ذهنهم مجرد امرأة معقدة من جسدها، تنظر إليه على أنه عورة. والمضحك أنهم مع هجومهم هذا يؤكدون على أنهم مع الاحتشام، وأنهم ضد العري الذي هو أيضاً اعتداء على آدمية المرأة، على الرغم من كونهم لم يوضحوا ولا مرة واحدة معيار هذا الاحتشام وحدوده، مع معرفتنا أن كلمة الاحتشام هي كلمة مطاطة، فلماذا يصير اختيارها للحجاب تعبيراً عن غبائها؟ لماذا تصير المرأة المحجبة ذات منظر كريه؟
وكذلك الأمر بالنسبة لغير المحجبة فهي مجبرة على ارتداء ما يوافق محيطها، لا تستطيع الخروج عما رُسم لها، وليس سفورها سوى اختيار غيرها، كما أن حجاب كثيرات من نسائنا هو اختيار غيرهن وليس اختيارهن.
إذا تخطينا مسألة العادات والتقاليد التي تفرض علينا سلوكيات معينة تتعدى تصرفاتنا وتعاملاتنا إلى ملبسنا ومأكلنا، إذا تعديناها إلى مسألة الاختيار الحر، الذي لا نصادفه في مجتمعاتنا إلا نادراً، فإننا نجد أننا حتى الآن لم نصل لمرحلة احترام حرية الآخرين، واحترام عقلهم الذي أوصلهم إلى قناعة بما اختاروه. فالمرأة التي اختارت الحجاب عن قناعة في محيط سافر تجد معارضة شديدة وتسخيفاً كبيراً لفكرها وعقلها، بل حتى نظرة عدائية تظهر لها الكره والقرف والاستخفاف والسخرية. وكذلك الأمر بالنسبة لمن اختارت السفور في محيط محجب فإنها تلاقي اعتراضاً كبيراً، وتأثيماً خطيراً، ونظرة عدائية أيضاً. هناك دائماً صورة مفروضة عليها يجب عليها الالتزام بها دون مناقشة. وما دعاة السفور بأحسن حالاً من دعاة التحجب، فهم يشتركون معهم بالعقلية نفسها التي يرمونهم بها.
مسألة الحجاب في مجتمعنا لم تكن مشكلة لجداتنا وأمهاتنا، لم يكن الحجاب هو ما يكبت المرأة، بل إنها كانت مغلوبة على أمرها, تعمل بكد وتعب، تزرع وتحصد وتنجب وتربي وهي بحجابها، لم تكن صورتها كريهة في عيون من يرونها، بل كانت ملهمة الشعراء والكتاب والرسامين، ولكن قهرها زاد عندما صار دعاة السفور ينظرون إلى حجابها على أنه كريه مقرف، فزادوا أعباءها عبئاً، ولم يفعلوا شيئاً لرفع الظلم عنها.
والله من وراء القصد،،،
dr.aobaid@gmail.com