نزعة التكفير كإشكالية مركبة وذات طابع معقد، يتعذر عزو تمظهراتها إلى باعث يتيم بعينه؛ فهي ذات أبعاد متنوعة تتجاذبها من كل زاوية مع تباين جلي بين هذه الأبعاد في مستوى التأثير، هذه البواعث تدلف فيما بينها في سياق تفاعلي وتلاقح توليدي تنجم المشكلة.
جراءه علماً بأن الوقوف عن كثب على جميع الأسباب والإحاطة بها على نحو شمولي أمر ليس بالمكنة تجسيده؛ لأن آليات الانحراف من الكثرة والتنوع ما يحيلها إلى متعالية على الحصر يقول أبو بكر الطرطوشي: (والخطأ لا تنحصر سبله ولا تتحصل طرقه، فاخط كيف شئت، وإنما الذي تنحصر مداركه وتنضبط مآخذه فهو الحق؛ لأنه أمر واحد مقصود يمكن إعمال الفكر والخواطر في استخراجه) انظر (الحوادث والبدع) ص 22 وفي هذه القراءة التي بين أيدينا سيجري تناول واحد من أبرز أسباب التكفير وهو الجهل، وهو على عدة صور، منها: الجهل بالقرآن الكريم. إن وهن الإدراك لهذا الخطاب العلوي الجليل الذي يتمتع بفرادة نوعية، وعدم التوافر على بواعث وعيه والإخفاق الذريع في التناغم مع آفاقه السامية هو أبرز الأسرار التي تقف خلف جملة غير ضئيلة من قوالب الانحراف في التعاطي مع النص وصرف جوانبه الدلالية عن مدلولاتها الجوهرية إلى مدلولات مغايرة بل ثمة من جعل للنصوص ظاهراً متاحة معاينته، ومدلولاته تنسل إلى الذهن من غير حاجة إلى كبير عناء، ولها باطن يتعذر على الإدراك البسيط فهو - في تصورهم - محصور الوعي به على شريحة من الخاصة التي بمقدورها هي فقط النفاذ إلى ما تنطوي عليه محتوياته من معان مضمرة، وثمة من اعتمد في حراكه التأويلي على الرأي المجرد من مبرراته المنطقية وما انحرف الخوارج فيما مضى إلا بفعل جهلهم المطبق بالقرآن وهشاشة الفقه التأويلي لديهم. ولا غرو؛ فهم (يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم)؛ أي أنهم يقرأونه قراءة خالية من فقهه ومجردة من وعي بعده المقاصدي. والإمام (النووي) - كما ينقل عنه (ابن حجر) في (فتح الباري) - يعلق على الجملة الحديثية الآنفة بقوله: (المراد أنهم ليس لهم منه حظ إلا مروره على لسانهم لا يصل إلى حلوقهم فضلاً عن أن يصل إلى قلوبهم؛ لأن المطلوب تعقله وتدبره بوقوعه في القلب) انظر (12- 293) ويقول (الشاطبي) رحمه الله: (ألا ترى أن الخوارج كيف خرجوا من الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي؟ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصفهم بأنهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم يعني - والله أعلم - أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قلوبهم؛ لأن الفهم راجع إلى القلب فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل به؛ فهم على حال) انظر (الاعتصام: 2-691). وفي الظرف الآني اليوم أنماط من الأفعال التكفيرية الباعث عليها الفهم الكسيح لدلالات النص كما نرى عند أحد رموز التكفير وهو (شكري مصطفى) حيث حرم التعليم واستمات في الدعوة إلى الأمية والحض عليها ومحاولة تعميمها على أرحب إطار ممكن! انطلاقاً من وعي مشوه لقوله سبحانه:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}. يقول شكري مصطفى بعد سوقه لهذه الآية: (إن هذه الأمة الأمية ليست أمية فحسب، من بعث فيهم رسول الله في أول الأمر... ولكن)، (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)، وهم التابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين الذين يسيرون على الدرب (انظر التوسمات - ص 16) هذا الزعيم المرتكس في ظلام التكفير لم تسعفه مداركه الهزيلة في التناغم مع الأفق الدلالي للآية فبنى عليها نتائج لم تشر إليها أصلاً، لا من قريب، ولا من بعيد. إن النص القرآني، فضلاً عما يتضمنه من أصول الكمال اللغوي، وما دار عليه من وجوه الوضع البياني، يحتوي أيضاً في مضامينه على زخم من الحقائق المعرفية اليقينية المطلقة، وليس ثمة منحى من مناحي المعرفة أو جانب من جوانب الحياة إلا تناوله، إما على وجه التنصيص القطعي المباشر أو على وجه الإيماء الضمني الإشاري على نحو لم يبق فيه للتشريع الذاتي أي مجال؛ ولذلك فمن توخى النظر في كليات الشريعة ورام النفاذ إلى مناحيها المقاصدية فلا مناص له من الاعتماد الكلي على هذا النص وعلى تفصيلاته في السنة النبوية للخروج برؤية مستصحبة للشرط الشرعي ومنضبطة بمغازيه. إن التعاطي الإيجابي مع هذا الكتاب العزيز هو الذي يجري بناء على تأمل عميق في فحواه وتحرّ دقيق لدلالاته وتدبر موضوعي لإدراك مداه ومعانقة بنائه المفاهيمي، عندما يجري التعاطي بهذه الآلية القرائية تزول الغشاوة ويتدفق النور إلى الإدراك العقلي فيتفتح، ويتفتح النص في المقابل عن الثروة المعرفية التي يختزنها. إن العمل على استكناه النص يتطلب أحياناً التوجه إلى ذوي الحس المعرفي وأرباب الاختصاص ليكشفوا عن الميتافيزيقيا الدلالية والمعاني الماورائية وليبرزوا الحقائق المعرفية الكبرى التي ينطوي عليها. إن استشكال جملة من النصوص أو فهم بعضها على غير وجهها أمر طبيعي، وقد حصل ذلك حتى للصحابة - رضي الله عنهم - كما هو الحال عند عدي بن حاتم الذي غاب عنه التأويل السليم لقوله سبحانه: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}.
وإذا كان الصحابة، وهم خيار الأمة، بهذه المثابة من الحاجة إلى التفسير فإننا - كما يقول الزركشي -: (نحتاج إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ما لم يكونوا محتاجين إليه من أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم؛ فنحن أشد الناس احتياجاً إلى التفسير) انظر (البرهان: 1-15). إن الذهنية التكفيرية لما تجافت عن القرآن الكريم وران عليها الجهل به باتت متأرجحة مضطربة الخطا تقف على أرض لينة؛ فهي أبداً في أمر مريج لا يستقر على حال، نعم التكفيري قد يكثف من التلاوة القرآنية، وقد يتلوه على نحو متصل آناء الليل والنهار، لكنه في حقيقة الأمر هو أنأى ما يكون عنه، بفعل افتقاره إلى فقه القراءة المعتبر، وعدم توافره على الماينبغيات القرائية. إن القرآن ليس مجرد تلاوة باللسان ولا هيام بالوجدان، إنه فوق ذلك، إنه تعقل وتدبر يجري بموجبه السير على هداه، وتجسيد منهجه في الواقع، تلاوة القرآن إذا لم يكن لها امتداد عملي، ولم يتبعها سلوك تطبيقي، فهي ليست إلا تماهياً شكلياُ، إنها هنا حجة على تاليها ليس إلا. إن مجرد مرّ البصر وكرّه على السطور، ليس قراءة، إنها قراءة، ولكن قراءة سطحية لا تحفر في أعماق النص، ولا تستشرف آفاقه؛ الكينونة التكفيرية لما استدبرت دلالات الخطاب القرآني التي هي سبب الهدى والاتصال والارتفاع وانسلخت منها لجّت في مستنقع الانحراف وهبطت من القمة المشرقة والتصقت بالهوة المعتمة حتى باتت غرضاً للشيطان وصيداً سهلاً له لا يقيها منه واق ولا يوفر لها الحماية منه حام، لقد استحوذ على بنية وعيها وأحالها للالتياث بأفكار التكفير. إن الجهل بالقرآن الكريم ألقى بظلاله على كافة المستويات حيث انحرفت تصوراتهم العقدية وحادت عن الجادة المأمونة وانحرفوا في شعائرهم التعبدية حتى غرقوا في أتون الغلو والتطرف وانحرفوا في حياتهم الواقعية التي ارتكز نظامها ووضعها العام على مبادئ مستوحاة من الهوى الذاتي والعقل البشري الكليل.
Abdalla_2015@hotmail.com