للأخلاق الفاضلة دور في رفع مكانة الرجال، كما أنها تفتح لصاحبها أبواب الرزق مثل فتحها قلوب الناس.. فإذا كنت صاحب خلق فاضل أحبك الله تعالى ثم حببك إلى خلقه فقدموا لك - بإذن الله تعالى - ما تحتاجه من خدمة وتعاون وتيسير. |
وكذلك كان صاحبي - فيما أحسبه - نوار العتيبي رحمه الله.. فقد كان حسن الخلق منذ أن وقف أمامي متقدماً للدراسة في السنة الأولى المتوسطة، كان مبتسماً وقوراً لبقاً. |
ومنذ أول يوم في الدراسة وجدته شغوفاً بالدرس ينصت إليه، وبالفكرة يسمعها، وبالقصة ينقلها راوياً.. أخذ على نفسه عهداً أن يحفظ ما يكلَّف بحفظه، ويؤدي أي واجب يطلب منه. |
أما إذا سمع الشعر فإنه يحلق في معانيه وخياله فيعلق بذاكرته ثم لا يفارقها، وكثيراً ما كان يذكرني بأبيات سمعها منذ سنتين أو أكثر سواء كانت في منهج دراسي أو في ديوان شعر قرأ فيه، ومن أبرز ما كان يتمثل به كثيراً أبيات من شعر الإمام الشافعي ومنها: |
زن من وزنك بما وز |
نك وما وزنك به فزنه |
من جا إليك فَرُح إلي |
ه ومن جفاك فصد عنه |
من ظن أنك دونه |
فاترك هواه إذن وهنه |
وارجع إلى ربِّ العبا |
د فكلُّ ما يأتيك منه |
وبعد أن لمع نجمه في المواد الدراسية وجد أن النشاط المدرسي فرصة لصقل المواهب وتنمية الملكات، والتدريب على العمل والإنتاج وتقديم الخدمة للناس، فحرص على المشاركة في برامجه وبخاصة النشاط الكشفي.. وكان فيه مثالاً فريداً في: خفة النفس والمحافظة على ما يؤتمن عليه وصدق المواعيد والصبر والإيثار.. وعلى ذلك كانت سنوات الدراسة المتوسطة والثانوية، رحمه الله وغفر له.وبعد حصوله على الشهادة الثانوية قُبل للدراسة في كلية الملك فهد الأمنية، وتخرج منها ليعمل في الدفاع المدني، وشاء الله أن يكون مكان عمله في مدينة بعيدة جداً عن مكان سكن أهله، فرضي بما قسم الله، وكان - بشهادة زملائه في العمل مثالاً في الجد وحسن الخلق مع الكبير والصغير والقيام بالعمل على أفضل وجه ممكن. |
ولأن أخي كان صاحب همة عليا لم أجد لها وصفاً أدق من قول الشاعر: |
وكن رجلاً رجله في الثرى |
وهامة همته في الثريا |
ولأن أصحاب الطموح لا توقفهم العقبات والصعوبات قرر نوار أن ينتسب للدراسة الجامعية بجانب قيامه بعمله في الدفاع المدني، ولكن كان دون ذلك طريق طويل، فعمله في نجران ولم يجد قبولاً إلا في الأحساء.. فقبل وصبر على مدى أربع سنوات يحضر جميع الامتحانات ثم يرجع إلى عمله وفي منتصف الطريق بينهما - تقريباً - يمر بالقرب من منزلي فيقف ليزورني زيارة قصيرة لا يمكنه غيرها. |
وتكمل فرحته بتسلم شهادة التخرج من كلية الشريعة بالأحساء، ويرزقه الله بابنين وبنتين، وييسر الله انتقاله لمدينته التي أحبها وأحب أهلها ونشأ وتعلم فيها اثنتي عشرة سنة. ولكن قدر الله غالب، وحكمته سابقة، فيغادر أبو رائد هذه الدنيا في شبابه، ويأتيني الخبر بلا مقدمات من أحد زملائه فيلجمني الحزن وتأسرني شباكه فلم أستطع حينها أن أقول شيئاً سوى: (لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون)، وتنهمر الدموع ثرة في المسجد حين الصلاة عليه ثم في المقبرة وأخوه يعانقني عناقاً حاراً وهو يعلم مكانة أخيه في نفسي.. ثم تمضي فترة من الزمن، وأرى الشبل (رائداً) وفيه صورة من أبيه فتعود لي الذكريات، ويلح عليّ نميرها، وألتفت يميناً وشمالاً لأبحث عن بديل أو قرين فلا أجد أحداً.. فنوار لم يكن طالباً أو تلميذاً لي فقط وإنما ابن وصديق وأخ كريم، وكان كذلك أيام الدراسة وبعدها، ولم أشهد طوال حياته موقفاً واحداً ساءني فيه أو جاء على خلاف ظني أو قصر عن واجب طلب منه. فإلى أحبابه كلهم وخصوصاً شبليه (رائد) و(خالد) رسالة حب وود وبشرى؛ ففقيدنا جميعاً كان صالحاً متحلياً بأخلاق فاضلة نقي السريرة، وهذه الخصال ستكون شفيعة له عند ربه، أسأل الله بأسمائه الحسنى أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يبارك في أولاده الأربعة لينهجوا نهجه ويتبعوا خطاه كي يسعدوا في الدنيا والآخرة بإذن الله تعالى، ويكونوا خلفاً كريماً صالحاً لسلف كان تاج أهله وأصحابه وإخوانه. |
|