ليس هناك من احتل المساحة الأكبر والأضخم في تاريخ المملكة العربية السعودية بعد الملك عبدالعزيز مثل الملك فيصل على مدى إحدى وسبعين سنة، عاشها هذا الزعيم العظيم مساهماً - مشاركاً ومنفرداً - في صناعة تاريخ هذا الوطن العظيم. قد كان فارساً في كل ميدان في الحرب، والسياسة، والإدارة، حتى أصبح واحداً من أبرز قادة عالمنا المعاصر.....
..... لهذا فإنه يصعب على أي باحث في مجال التاريخ، والسياسة والإدارة أن يوفي هذا الرجل حقه. وما حديثي إليكم في هذه الليلة إلا إحدى تلك المحاولات التي سبقني إليها كثير ممن كتب عن الملك فيصل، ومهما تعددت تلك المحاولات فإنها تظل قاصرة. منذ أقل من عام أقامت دارة الملك عبدالعزيز - مشكورة - ندوة تاريخية عن الملك فيصل ضمن سلسلة تعقدها الدارة عن ملوك الدولة السعودية الحديثة، بدأتها بندوة عن المغفور له - بإذن الله - الملك سعود، ثم ندوة عن الملك فيصل بصفته ثاني ملك لهذه الدولة بعد والده المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز. والملكان سعود وفيصل، وقبلهما أخوهما الأمير تركي بن عبدالعزيز (الأول) الذي توفاه الله قبل أن يرى إنجاز ما بدأه مع والده في بناء هذه الدولة. كان الثلاثة من أبناء المؤسس ممن أسهموا في بناء هذا الكيان في جل معاركه بكل تأكيد إلى جانب كثيرين، بل كثيرون جداً من أبناء أعمامهم وعمومتهم، ومن أبناء هذا الشعب كافة، خاصة جيل التأسيس الذين رفعوا على أكتافهم وبسواعدهم قواعد هذا الكيان وأسسه لبنة لبنة في ظل ظروف معيشية صعبة، وتحديات سياسية واجتماعية أصعب. أمام هذه الصعاب، وفي مواجهتها أقاموا لنا وطناً وأصبحنا نرفل نحن أبناء هذا الجيل في بحبوحة من العيش ودوحة نتفيأ في ظلال أمنها، ورفاه من الصحة والنعيم، كل ذلك بفضل ما تركه لنا جيل التأسيس. وقليلاً ما نعرف نحن عن معاناة ذلك الجيل، وقليلاً ما نحيي ذكراهم، وقليلاً ما نعمل على تقريب صور معاناتهم من خلال عطاءاتنا الفكرية والإبداعية، مثل كتابة سيرهم، وتحويلها إلى أفلام وثائقية، أو لوحات فنية، أو روايات يقرؤها كل الناس، وكل الأجيال، كي تتجلى بطولات جيل التأسيس ومعاناتهم لكي يقيموا لنا وطناً يعيش بأمن وأمان ورفاه في كنفه.
وبهذه المناسبة التي نتحدث فيها عن سيرة رجل عظيم من رجال التأسيس أدعو وزارة الثقافة والإعلام، والقطاعات الأخرى المعنية بصناعة الثقافة إلى الخروج من النمطية المملة أحياناً حينما نحتفل موسمياً بيومنا الوطني، وأن نجعل كل السنة مواسم احتفال بكل إنجازات هذا الوطن، وإنجازات رجاله ونسائه، وأن نشجع المبدعين من روائيين ومؤرخين وفنانين ونساندهم في تجسيد تاريخ الوطن، وتاريخ أبنائه بطرق حديثة ومؤثرة في النفس، لنجذر حب الوطن في نفوس أبنائه.
شارك الملك فيصل في معظم المعارك الحاسمة التي شهدتها هذه البلاد في خلال مسيرة توحيدها، وأثناء مواجهات التحديات الخارجية التي هددت وحدتها، وذلك منذ سنوات سنيه المبكرة. فلقد كانت ولادة فيصل عام 1904م سنة فأل خير لوالده؛ فلقد ولد في الليلة التي انتصر فيها على ألد خصومه وأكثرهم خطراً ابن الرشيد في معركة روضة مهنا في القصيم التي مثلت نقطة تحول في الصراع ما بين البيتين السعودي والرشيدي.
وفي سن الثالثة أو الرابعة عشرة انتصر ابن عمه عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي في حرب ضم منطقة عسير عام 1918م، فكتب له الأمير فيصل يهنئه بالانتصار ويذكر في كتابه ذاك أنه يبعثه إليه وهو مشارك في سرية لمواجهة خصوم والده في شمال نجد. كانت هذه أول إشارة مشاركة له في إحدى المغازي وهو في هذه السن المبكرة جداً.
من الواضح أن الأمير - الملك فيصل - كان شخصية استثنائية منذ سنواته المبكرة. فلقد فقد والدته طرفة بنت الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ وهو في سن مبكرة جداً، وكان والده يخوض أشرس المعارك، والتي كان معظمها بعيداً عن العاصمة، وعن ابنه فأل الخير؛ فعاش الأمير فيصل في كنف جده لأمه الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ الذي اشتهر بأنه عالم وقائد وشجاع وكريم وسياسي، فلا غرو أن يكون من كبار مستشاري الملك عبدالعزيز - رحمهم الله جميعاً -. وكعادة المؤرخين المحليين في عدم الاهتمام بذكر ما يجب ذكره من تاريخ الفترات المبكرة عمن أصبحوا فيما بعد من كبار القادة فقدنا كثيراً عن معرفة السنوات الأولى في حياة هذا الأمير الذي أصبح فيما بعد من ألمع قادة العالم وساسته.
ولكن كما يبدو أنه عاش سنوات لم تكن الحياة فيها سهلة، وكان أكثرها صعوبة فقد والدته، وانشغال والده في معظم تلك السنوات بحروب متواصلة إذ ما إن تنتهي واحدة إلا تندلع أخريات. ولكن من الواضح أنه لاقى اهتماماً وافراً من قِبل جده الشيخ عبدالله، من حيث إعداده في العلوم الشرعية واللغة، لهذا نرى أثر ذلك واضحاً في مستقبل حياة هذا الزعيم. فلقد كان عالماً بأصول الشريعة، متضلعاً في معرفة اللغة والبيان، ما أهله ليكون واحداً من أبرز آل سعود في مجال الخطابة والإقناع في كل المحافل الدولية.
أما عن دُربته على إعداد الذات في المشاركة في الحروب فهذا من الأمور المُسَلّم بها لأبناء هذه الأسرة. فلقد تدرب على ركوب الخيل وهو في سنواته المبكرة. مما أهله للمشاركة في الغُزَية التي أشار إليها في كتابه لابن عمه الأمير عبدالعزيز بن مساعد وهو في الثالثة عشرة من عمره، كما سبقت الإشارة إليه.
أما الحنكة والحكمة فقد تشربها بالفطرة من والده وجده لأمه، ثم نما هذه الموهبة التي فطر عليها من خلال تجارب السنين، وولوجه في معارك الحياة السياسية التي بدأها منذ سنواته المبكرة. ولقد أدرك والده عبدالعزيز - وهو مدرسة سياسية وعسكرية قل أن نجد لها مثيلاً في تاريخنا العربي المعاصر- ما يتمتع به ابنه فيصل من نجابة، ومن امتلاك مقومات القيادة، فأخذ على عاتقه مهمة إعداده وتوظيف مواهبه لخدمة هذا الوطن الآخذ بالتشكل؛ والذي ما إن حطت الحرب العالمية الأولى أوزارها حتى بدأ تشكل هذا الوطن في الاكتمال.
كانت أولى مهماته السياسية، وهي الأبرز، لأننا نعرف تفاصيلها من خلال ما كتبه المؤرخون والسياسيون الغربيون، وربما كانت له مهمات سياسية قبل هذه، ونحن لا نعرفها. تلك المهمة السياسية الكبرى كانت حين أوفده والده إلى بريطانيا لينوب عنه في احتفال بريطانيا المنتصرة في الحرب العالمية الأولى وعمره لم يتجاوز الخامسة عشرة سنة. ولقد أثبت خلال هذه الرحلة التاريخية في أول مهمة سياسية يقوم بها فرد من آل سعود إلى دولة أوروبية قدرته وحنكته وسياسته وأصالته في كل تصرفاته الموثقة بالكلمة والصورة. ويسعدني أن أقدم وصفاً كاملاً لتلك المهمة السياسية الصعبة التي لم تكن (بروتوكولية) كما يظن البعض، بل كان لها بعد سياسي في منتهى الأهمية هو التفاوض باسم والده مع بريطانيا حول مستقبل الجزيرة العربية السياسي في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ما إن عاد فيصل من رحلته التاريخية إلى لندن وباريس حتى كُلف بمهام أكثر أهمية، وأشد خطراً. فقد كُلف بقيادة أكبر حملة عسكرية يجهزها والده إلى عسير حيث اندلعت هناك ثورة على درجة كبيرة من الخطورة على مستقبل إكمال مشروع الوحدة الوطنية إذا لم تخمد في مهدها وبأسرع وقت ممكن. واختير فيصل لهذه المهمة الصعبة وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره، فأثبت أنه ماهر في الحرب، وقيادة الرجال، وكانت حنكته في التعامل مع شق هذه الحرب السياسي مهارة فائقة أذهلت كل من رافقه من كبار قادة والده؛ كما أذهل المراقبين السياسيين فقد انتصر في الحرب بأقل التكاليف، وأعاد أهم منطقة إلى بيت الوحدة الوطنية، وضمن بذلك سلامة ما تم إنجازه من الوحدة الوطنية من أي تصدع أمام أطماع من كان متربصاً بهذه الوحدة.
عاد البطل إلى الرياض منتصراً، فخرج أكثر من نصف سكانها لاستقباله يتقدم المستقبلين جده الإمام عبدالرحمن الفيصل، ووالده، وكل آل سعود في الرياض - نساء ورجالاً - في استقبال رائع خارج المدينة وقت له أن يكون قبيل طلوع الشمس في يوم من أجمل أيام مدينة الرياض. وصف المؤرخ أمين الريحاني - الذي كان شاهد عيان - ذلك المشهد بالمشهد التاريخي الأخاذ يصف الجد وهو يعانق الحفيد بعد ترجله من على صهوة حصانه، ثم عودته إلى ظهر فرسه قبل أن يسلم على والده، ثم يستعرض مع ثلة من فرسان جيشه استعراضاً رائعاً شاركه فيه إخوانه، وأبناء عمومته وأهله في مدينة الرياض. والصورة الفوتوغرافية التي التقطها الريحاني للأمير القائد مصحوبة بنص نثري بديع في وصف ذلك الحدث تشاهدونها في معرض الحديث عن هذا الحدث.
في عام 1923م كان فيصل يقود واحداً من أكبر جيوش والده تجاه الحجاز بعد أن فشلت السياسة في حل ما لم يكن عن الحرب منه بد، وكان أحد القادة من آل سعود إن لم يكن ثانيهم في حصار مدينة جدة حيث كان عمه الأمير عبدالله بن عبدالرحمن يشاركه في الحصار بإدارة ذكية لهذه الحرب من قبل الملك عبدالعزيز. اكتمل عقد الوحدة الوطنية بضم الحجاز وعين لإدارته رجل الحكمة والسياسة والإدارة والعقلية المتفتحة. لن يكون ذلك الرجل سوى فيصل. حيث عينه والده نائباً عنه في حكم الحجاز، ورئيس مجلس الشورى، ورئيس الوكلاء (الوزراء). من هنا بدأ مشوار فيصل في بناء دولة عصرية مبنية على أسس وأنظمة وقوانين ولها علاقاتها الدولية؛ فأوكل إلى فيصل منصب وزير الخارجية فأثبت مهارة فائقة في السياسة قدر مهارته في الحرب والإدارة، وظل وزيراً للخارجية إلى حين وفاته رحمه الله. في عام 1975م أصبح ولياً للعهد، وكلف من قبل أخيه الملك سعود في أول تشكيل وزاري في نفس العام رئيساً لمجلس الوزراء، بالإضافة إلى منصبه وزيراً للخارجية.
في عام 1932م تعرضت المملكة لمؤامرة اشترك فيها عدد من الأطراف الذين ما فتئوا يعملون على تقويض الكيان الوطني السعودي. كانت بداية تنفيذ المؤامرة من الجنوب. حيث حشد إمام اليمن جيشاً يهدد به الحدود الجنوبية في المملكة. فجهز الملك عبدالعزيز جيشاً قسمه إلى قسمين الأول بقيادة الأمير سعود بن عبدالعزيز ولي العهد حينذاك، والآخر بقيادة ابنه نائبه في الحجاز الأمير فيصل، الأول على الجبهة الجبلية، والثاني على قيادة الجيش الذي توجه عن طريق الساحل. لم يكن الملك عبدالعزيز راغباً في الحرب، لكنه دخلها مضطراً، وتمكن من الانتصار فيها؛ وقبل إمام اليمن بالصلح بعد ذلك، وترسيم الحدود، وعودة الجيش المنتصر الذي كان يقوده فيصل من الحديدة إلى جدة كما عاد الجيش الثاني الذي يقوده أخوه الأمير سعود إلى الطائف حيث أقيم هناك احتفال بالنصر والسلام.
عاد فيصل على رأس جيشه إلى الحجاز منتصراً كعادته، فلم يدخل هذا الأمير معركة عسكرية، أو سياسية إلا خرج منها منتصراً.
قام برحلات سياسية إلى العديد من الدول الأوربية لعل أهمها ما سبق الحرب السعودية - اليمنية حيث قام بزيارة إلى كل من بولندا، وتشاهدون عدداً من صور تلك الرحلة؛ وهولندا. والأهم أنه قام بأول زيارة يقوم بها وزير خارجية سعودي وربما عربي إلى روسيا (الاتحاد السوفيتي السابق) عام 1931م. لقد كانت لتلك الزيارات أبعاد سياسية واقتصادية. وطد مع تلك الدول علاقات الدولة السعودية الفتية ما حدا بالاتحاد السوفيتي لأن يكون أول دولة أوربية تعترف بالمملكة العربية السعودية في يوم قيام وحدتها عام 1932هـ. لا أريد أن أتوسع في الحديث عن دور الملك فيصل في تاريخ الدولة السعودية بعد إعلان قيامها ووحدتها إلى حين وفاته - رحمه الله - شهيداً؛ فهذا موضوع يطول الحديث عنه. وما قدمته في هذه الليلة إلا عناوين يصلح كل عنوان منها لإعداد رسائل علمية حوله. وكما قلت قبل ذلك فإن الحديث عن الجوانب المختلفة عن تاريخ واحد من أكبر قادة المملكة. وأكبر قادة العالم المعاصر يحتاج منا إلى مؤتمرات، وندوات، ومجلدات. رحم الله الفيصل وأسكنه فسيح جناته.
كانت علاقة الفيصل بهذه المدينة الطائف، حميمة ففيها كان يقضي أجمل أيامه، وفيها تعلم أبناؤه، وفيها ومنها انطلق كثير من القرارات، منها قرار إعلان الحرب على اليمن، حينما لم يكن أمام الملك عبدالعزيز سوى خوض غمار الحرب.
وفي هذه المدينة كُتبت وثيقة إعلان الوحدة الوطنية التي نحتفل بها في كل عام في الأول من الميزان 1351هـ - 1932م.
فللطائف ولأهلها مني ألف تحية وسلام، فهي مدينة السلام، والجمال، والتاريخ، والحضارة.
زيارة الأمير فيصل بن عبدالعزيز الأولى إلى بريطانيا عام 1919م كما تتحدث عنها الوثائق البريطانية
في شهر يوليو 1919م وجهت بريطانيا العظمى دعوة للملك عبدالعزيز لزيارة لندن ضمن عدد من كبار قادة العالم، احتفالاً بانتهاء الحرب العالمية الأولى، وما حققه الحلفاء فيها بقيادة بريطانيا من انتصار.
إضافة إلى رغبة بريطانيا في السعي بالمصالحة بين الملك عبدالعزيز والشريف الحسين بن علي أمير مكة على اثر سيطرة القوات السعودية لواحتي تربة والخرمة في عام 1917هـ، وإصرار الشريف - بمساعدة بريطانيا - على انسحاب القوات السعودية منها، وإصرار الملك عبدالعزيز على تسوية كافة الأمور المعلقة بينه وبين الشريف التي أدت إلى أسباب التوتر واستمراره في العلاقة بين الطرفين، والتي ستظهر جلية في ثنايا ما سنعرضه من وثائق خلال الاستعراض الكامل لتفاصيل زيارة الأمير فيصل والوفد المرافق له إلى لندن، وهي تفاصيل كثيرة منها ما ظل مجهولاً لدى كثيرين، من الباحثين المتخصصين. ورغبة في إشراك غير المتخصصين في معرفة تطور الأحداث التاريخية التي مرت بها مراحل توحيد المملكة حتى أصبحت مملكة واسعة الأرجاء موحدة قوية، إذ لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه إلا من خلال جهود جبارة بذلها القائد المؤسس. ولا نريد لهذه الجوانب المهمة في تاريخ المملكة أن تظل حبيسة ملفات التاريخ، وحكراً على فئة قليلة من العارفين بها، بل يجب أن تصبح حقاً عاماً لكل مواطن سعودي أن يطلع على تفاصيل تاريخ مسيرة بناء دولته، والجهود المضنية التي بذلها أولئك القادة المؤسسون، وذلك لكي يعرف أبناء هذا الجيل أن بناء الوطن وتوحيد الأمة لم يكن بالأمر السهل، وأن مسؤوليتهم الآن وفي المستقبل وإلى الأبد هي الحفاظ على وحدة هذا الوطن، والارتقاء بسمعته عالية من خلال العمل الدؤوب، تأسياً واقتداء بما قام به جيل التأسيس.
لم يكن الملك عبدالعزيز ليترك بلاده، وهي تدخل منعطفات حرجة في مسيرة إكمال توحيدها وبناء كيانها السياسي، ويلبي دعوة ملك بريطانيا، وإنما أناب عنه في القيام بهذه المهمة ابنه الثاني الأمير فيصل، ولم يرسل ابنه الأكبر الأمير سعود الذي أصبح خلال هذه الفترة قائداً لامعاً من قادة الجيوش، واليد اليمنى لوالده، والوريث المرتقب لقيادة البلاد، خاصة أن الملك عبدالعزيز قد فقد خلال عام 1918م - أي قبل أقل من عام من رحلة الأمير فيصل - ابنه الأكبر، وساعده الأيمن، وقائداً بارزاً من قادة جيوش والده، وهو الأمير تركي بن عبدالعزيز، وكذلك ابنه الآخر الأمير فهد اللذين لقيا وجه ربهما نتيجة مرض الأنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت نجد في تلك السنة، وقد ذهب ضمن من ذهب من ضحايا ذلك المرض الأميرة الجوهرة بنت مساعد بن جلوي زوجة الملك عبدالعزيز، الأثيرة إلى نفسه، وأم ابنيه محمد وخالد. وقد كانت فاجعة عبدالعزيز في أغلى الناس وأقربهم إلى نفسه كبيرة، وفي ظروف هو أحوج ما يكون فيها إلى هؤلاء الأعزاء إلى جانبه. و لكن عظمة القيادة، وقوة الإيمان الذي يعمر قلب عبدالعزيز، وسمو الهدف الذي يسعى لتحقيقه جعله يتغلب على أحزانه وعلى مصائبه الصغيرة، وهي ليست صغيرة، ولكن نقول ذلك تجاوزاً، لكي يواجه المصاعب والشدائد الكبيرة المتمثلة فيما يواجهه من تحديات وظروف صعبة في سبيل تحقيق هدفه الذي نذر حياته كلها لتحقيقه، ألا وهو إقامة دولة، وتوحيد وطن، وإقامة دعائم العدل والأمن والاستقرار في بلد افتقد ذلك كله عقوداً طويلة.
غادر الأمير فيصل ميناء العقير - ميناء المملكة الأول على ساحل الخليج العربي - وهو لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره إلى البحرين، ومنها استقل بارجة للبحرية الملكية البريطانية تدعى لورنس، يرافقه الأمير أحمد بن عبدالله بن ثنيان آل سعود المستشار السياسي للملك عبدالعزيز، والذي يعد أول وزير خارجية لإمارة نجد.
وكان من ضمن الوفد أيضاً عبدالله القصيبي من تجار الأحساء، من خاصة الملك عبدالعزيز الذي كان من ضمن أوائل المؤيدين للملك عبدالعزيز في الأحساء، ومن ثم أصبح وكيله التجاري والسياسي في البحرين.
إضافة إلى عدد من الخدم والأخوياء لم تذكر مصادرنا الوثائقية عددهم على وجه التحديد ولا أسماءهم، وكان يرافق الأمير فيصل مرافق شرف هو الميجور همفري لومان من ضباط الجيش البريطاني.
انضم إلى الأمير فيصل على متن الباخرة لورنس الشيخ أحمد الجابر الصباح، الذي أصبح أميراً للكويت فيما بعد، وقد كان مدعواً أيضاً من قبل ملك بريطانيا.
غادرت الباخرة أولاً إلى الهند، حيث مكث فيصل والوفد المرافق له في الهند عدة أيام، سكن خلالها في فندق تاج محل ووضع له برنامج يتناسب مع مكانته وأهميته من قبل حاكم بومباي، ومن هناك غادر إلى بريطانيا عن طريق قناة السويس، وكان محل اهتمام الرسميين البريطانيين طوال الرحل البحرية الطويلة. وكان فيصل في كامل أناقته مع حداثة سنه في ملابسه العربية، وسيفه الذي لا يكاد يفارقه وخنجره المذهب، وأخذت له الصور الفوتوغرافية، كما رسمت له لوحات من قبل بعض الماهرين في فن الرسم من المسافرين على ظهر الباخرة، الذين أعجبوا بمظهر الأمير الشاب، وما لا حظا عليه من نجابة وذكاء ورزانة مع حداثة سنه.
في يوم الثالث عشر من شهر أكتوبر عام 1919م وصل الأمير فيصل ومرافقوه إلى ميناء بليموث Playmouth ولم يكن هناك حجز بالفندق الذي سيقيم فيه سوى لشخصين أي الأميرين العربيين فقط، في الوقت الذي كان عدد المرافقين المكلفين بالحراسة وعمل القهوة حوالي اثني عشر شخصاً مما استدعى قيام المسؤولين عن الضيافة باتصالات من أجل إيواء المرافقين للأميرين ولمدة أسبوع فقط في أحد الفنادق، ولكن المفاجأة حدثت عندما أخذ صانعو القهوة يشعلون النيران لعمل القهوة في بعض من أجزاء الفندق، وارتفاع صوت المؤذن في ممر الطابق الذي يسكنون فيه لصلاة الفجر في حوالي الساعة الخامسة والربع صباحاً، ورفض هؤلاء المرافقون من الحراس النوم في غرفهم، وإصرارهم على النوم عند أبواب مخدوميهم وعلى الأرض، مما جعل إدارة الفندق في صبيحة اليوم الثاني تلغي حجوزاتهم، وتطلب من الضيوف المغادرة.
المشكلة أن كل فنادق لندن المشهورة رفضت الحجز لهؤلاء الضيوف، ولكن تدخل السيد فيلبي الذي أصبح المرافق الرسمي للوفد وأنقذ الموقف بتدبير سكن لهم في أحد بيوت الضيافة المخصص للضباط المسنين التابعين للجيش الهندي في منطقة فكتوريا.
ولكن هذا لم يحل المشكلة كلها، إذ لم يكن بيت الضيافة هذا يقدم وجبات لنزلائه، مما اضطر الوفد إلى الذهاب لتناول الوجبات لنزلائه، مما اضطر الوفد إلى الذهاب لتناول الوجبات في فندق قروفنير الشهير القريب من محطة فكتوريا. كان من نظر إلى هذا الوفد العربي في لباسهم العربي وهم يذهبون من مكان إقامتهم إلى الفندق لتناول الوجبات أكثر من مرة في اليوم لافتاً للانتباه، مما جعل بعضاً من الصحف اللندنية الكبرى تتناول هذا المنظر كل بمنظورها وبوجهات نظر مختلفة. وكان الملك جورج الخامس - المعروف بتتبعه قراءة كل زاوية في الصحف، خاصة جريدة (التايمز) استاء كثيراً، واتصل مباشرة بوزارة الخارجية، معلناً استياءه من المعاملة التي عومل بها شيوخ العرب ذوو المكانة المهمة، وأبدى غضبه من مبالغات الصحف في تناولها لهذا الموضوع.
في يوم الخميس 30 أكتوبر، في الساعة الحادية عشرة وخمس وأربعين دقيقة قابل الأمير فيصل الملك جورج الخامس في قصر بكنجهام، حيث قام بتسليم الملك رسالة من والده، وهدية مكونه من سيفين مذهبين ومطعمين بحبات اللؤلؤ، أما برنامج المقابلة فكان كما وضحته الوثيقة الخاصة بذلك، والتي أعدت على هيئة مذكرة داخلية، أعدتها إدارة المراسم (البروتوكول) بكيفية مقابلة الملك للأمير فيصل، وتحوي توصية بما يبدأ به الملك من عبارات المجاملة، مثل إعلان أسفه عما بلغه من معاناة الملك عبدالعزيز من جراء فقدانه لبعض أولاده وزوجته، نتيجة مرض الأنفلونزا.
تهنئة الأمير فيصل على إسهامه في هذه السن المبكرة في عمليات التوحيد.
اقتراح بأن يظهر الأمير فيصل بصحبة صاحبة الجلالة الملكة، لفترة قصيرة وغير رسمية.
ترجمة رسالة ابن سعود وتلاوتها على الملك.
ترتيب الأسبقيات، وقد كتب معد المذكرة الداخلية موصياً بأنه: (يجب أن يتم استقبال الوفد النجدي قبل الوفد الكويتي، إلا أنني أعتقد أنهما (أي الوفدان) يجب ألا يصلا سوياً إلى القصر، لأن هذا سيكون من شأنه المساس بكبرياء الوفد الكويتي إبقاؤه في الانتظار. ويمكن التغلب على ذلك بتحديد فترة قصيرة تفصل بين وصول كل من الطرفين).
على ضوء ما ورد في المذكرة الداخلية الوارد مضمونها أعلاه، والتي كتبت بخط اليد أعدت دائرة المراسم (البروتوكول) برنامج المقابلة بشكل أكثر تفصيلاً مطبوعاً على الآلة الكاتبة، نورد نصه مترجماً وعنوانه:
الوفد النجدي
(سوف يحضر الوفد النجدي لتقديم فروض التقدير والتشرف بالسلام على جلالة الملك في الساعة 11.45 صباحاً يوم الخميس الموافق 30 أكتوبر وسوف يكون مكوناً من:
1- فيصل بن عبدالرحمن بن سعود.
2- أحمد بن ثنيان بن سعود.
3- عبدالله القصيبي.
مع حاشية من ثلاثة أشخاص.
وعند تقديمهم إلى حضرة صاحب الجلالة سوف يتم تقديم الثلاثة المذكورين أعلاه إلى الملك بواسطة السيد هـ.س.ت.ج إيه فيلبي، سي. آي. إيه (الخدمة المدنية لبلاد ما بين النهرين).
وبعدها سيقوم الملك بالترحيب بهم في انجلترا، والاستفسار عن صحة السيد عبدالعزيز بن سعود حاكم نجد ووالد فيصل.
بعد ذلك سيقوم فيصل بن سعود بتقديم الرسالة الواردة من والده، وكذلك السيفين.
بعدها سيقوم الشيخ أحمد بالتعبير عن امتنان الوفد للملك لشرف استقبال جلالته لهم، والسرور الذي لاقاه الوفد أثناء إقامته في لندن، وسوف يقدم تهاني ابن سعود بمناسبة انتصار الحلفاء
اقترح بأن يطلب الملك من خلال إجابته، من الوفد بأن ينقل شكره إلى ابن سعود على الهدايا المقدمة منه، وأن يؤكد لهم بأن البيان الذي قد يتقدمون به سوف يلقى التقدير والعناية من قبل وزراء جلالته، ويعبر عن أمله في أن تكون العلاقات الودية القائمة بين الحكومتين ذات صفة مستمرة ومتواصلة. ويمكن للملك أن يعبر عن أسفه بأن ابن سعود لابد أن يكون قد عانى كثيراً من وباء الأنفلونزا الذي حدث مؤخراً (الذي فقد فيه ثلاثة من أبنائه من بينهم ابنه الأكبر)، وأن يهنئ الشيخ فيصل على إسهامه في هذه السن المبكرة في العمليات العسكرية تحقيقاً للهدف المشترك في مواجهة العدو المشترك، وبعدها يتمنى لهم رحلة طيبة في طريق عودتهم.
بعد ذلك يمكن للملك أن يقدم للشيخ فيصل صورة فوتوغرافية موقعاً عليها ومبروزة هدية لوالده وبعدها يقول (وداعاً) للوفد.
ترجمة رسالة الملك عبدالعزيز إلى الملك جورج الخامس ملك بريطانيا:
ترجمة خطاب من صاحب العظمة الإمام عبدالعزيز بن سعود، كي. سي. آي. إيه، حاكم نجد وتوابعها.
إلى صاحب الجلالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة سمو صاحب الشوكة والعظمة الملك جورج الخامس ملك الدولة الفخيمة لبريطانيا العظمى أدام الله جلالته.
(بمناسبة دعوة جلالتكم والدعوة الموجهة من قبل حكومة جلالتكم الفتية والخاصة بإتاحة الشرف لنا لزيارة عاصمتكم المزدهرة والحصول على شرف الاستقبال بواسطة جلالتكم فقد أوفدنا ابننا فيصل بن عبدالعزيز وصحبته حاشية من أهل بيتنا، بيت آل سعود، وعلى وجه التحديد أحمد بن ثنيان، مندوبنا الخاص والمؤتمن، ورفاقه آملين أن تتوج زيارتهم بالنجاح في كل ما يتعلق بترسيخ العلاقات الوطيدة وتقوية أواصر الصداقة التي تربط ما بين إمبراطورية جلالتكم ودولة نجد. وبذلك يطيب لنا أن نرسل رسالة محبتنا إلى حضرة جلالتكم عوضاً عن حضورنا الشخصي لتقديم فروض التقدير والاحترام ومشاعر الود نحو عرشكم الملكي مقروناً بدعواتنا لكم بدوام الرخاء والمنعة).
التاريخ: 3 ذي القعدة 1337هـ الموافق 1 أغسطس 1919م.
الختم
ترجمة رسالة الملك جورج الخامس إلى الملك عبدالعزيز رداً على رسالته.
يطيب لي أن أشكر عظمتكم على رسالتكم الودية المؤرخة 3 ذي القعدة 1337هـ ولقد سرني كثيراً أن ألتقي بابنكم الشيخ فيصل بن عبدالعزيز ومندوبكم الشيخ أحمد بن ثنيان وأن أسمع منهم أنكم بخير. إنني أطمح إلى تقوية أواصر الصداقة التي تربط بين امبراطوريتي بدولتكم وأتطلع إلى أن تشمل كافة الدول العربية.
والآن وقد تم دحر العدو وتم استعادة استقلال الجزيرة العربية، فإنني على يقين من أن زعماءها وشعوبها سوف يكون بمقدورهم العيش سوياً في حرية وسلام ووحدة، وسوف تقوم حكومتي بدعم كافة جهودكم الرامية لتحقيق ذلك الهدف.
إنني أتمنى لكم من كل قلبي طول العمر والازدهار.
توقيع - جورج. ر.أ