كتب - مندوب (الجزيرة)
الحج الركن الخامس من أركان الإسلام، يتشوق كل مسلم لأداء هذه الفريضة، ليشهد المنافع الكثيرة، ومن قدر الله له وهيأ له الأمور لأداء هذه الفريضة، يستعد لها مادياً وجسمانياً، وقبل كل ذلك إيمانياً، فإذا كان الحجيج يرتبون أمورهم، وأمتعتهم، وإمكاناتهم، فإن الواجب عليهم قبل كل ذلك أن يعرفوا المناسك من العلماء، وطلبة العلم، ومن الكتب والأشرطة التي تتناول شعائر الحج، ليكون الحاج على بصيرة في أداء هذه الشعيرة.
ومن الأمور المهمة أيضاً التي يجب على كل مسلم ومسلمة منّ الله عليهم بالسفر إلى الديار المقدسة لأداء شعيرة الحج أن يلتزم سلوك الإسلام، وأن يتحلى بأخلاقياته، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، حتى يعود كل حاج - بإذن الله - إلى أرضه ودياره وأهله كما ولدته أمه، وينال الحج المبرور بإذن الله.
وفي هذا التحقيق نتناول الآداب والسلوكيات التي يجب على الحجيج الالتزام بها.
الاستشارة والاستخارة
بداية قال الشيخ عبدالعزيز بن صالح الحميد رئيس محاكم منطقة تبوك: للحج آداباً عظيمة، وأخلاقاً قويمة، يحسن بالحاج أن يقف عليها، ويجمل به أن يأخذ بها، ليكون حجة كاملاً ومبروراً، وسعيه مقبولاً ومشكوراً.. من تلك الآداب والأخلاق ما يلي:
أولاً: الاستشارة والاستخارة: فيستحب للحاج أن يستشير من يثق بدينه، وخبرته وعلمه في حجه هذا، كما يستحب له أن يستخير الله - عزوجل - في حجه.
ثانياً: إخلاص النية لله - تعالى -: فلا يقصد في حجه رياء ولا سمعة، ولا ليقال: حج فلان، ولا ليطلق عليه لقب الحاج، وإنما يحج محبة لله، ورغبة في ثوابه، وخشية من عقابه، وطلباً لرفع الدرجات، وحط السيئات، فالإخلاص عليه مدار العمل، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
ثالثاً: المبادرة إلى التوبة النصوح: وهي التوبة الناصحة الخالصة التي تأتي على جميع الذنوب، فحري بالحاج أن يبادر إلى تلك التوبة، وأن يتحلل من المظالم، فذلك أرجى لقبول حجه، ورفعة درجاته، ومغفرة سيئاته، بل وتبديلها حسنات.
رابعاً: التفقه في أحكام الحج: ولو على سبيل الإجمال؛ فإن لم يستطع فليأخذ معه من الكتب أو الأشرطة ما يفيده في معرفة أحكام الحج، وأن يسأل عما يشكل عليه.
خامساً: الحرص على اصطحاب الرفقة الطيبة: التي تعينه على الخير إذا تذكر، وتذكره بالخير إذا نسي، والتي يستفيد من جراء صحبتها العلم النافع، والخلق الفاضل.
سادساً: تأمير الأمير: فإذا كان الحجاج جماعة فعليهم أن يؤمروا أميراً، وأن يكون ذا خبرة وسداد رأي، وعليهم أن يلزموا طاعته في غير معصية الله، وليحذروا من الاختلاف عليه كما عليه أن يرفق بهم، وأن يستشيرهم.
سابعاً: حسن العشرة للأصحاب، ومن ذلك أن يقوم الإنسان على خدمتهم بلا منة ولا تباطؤ، وأن يشكرهم إذا قاموا بالخدمة، وأن يتحمل ما يصدر من الرفقة من جفاء وغلظة ونحو ذلك، وأن يرى الحاج أن لأصحابه عليه حقاً، ولا يرى لنفسه عليهم حقاً، فذلك من كريم الخلال ومن حميد الخصال، وما ترفع به الدرجات، وتحط السيئات.
ثامناً: تخير النفقة الطيبة، فيختار الحاج النفقة الطيبة من المال الحلال، حتى يقبل حجه ودعاؤه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيب لايقبل إلا طيباً).
تاسعاً: لزوم السكينة، واستعمال الرفق: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس، عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بالإيضاع).
عاشراً: الحرص على راحة الحاج، والحذر من أذيتهم: فعلى الحاج أن يحرص كل الحرص على راحة إخوانه الحجاج، وأن يبتعد عن كل مافيه أذى لهم، من رفع للصوت، أو أن يزاحمهم، أو يضيق عليهم، أو أن يؤذيهم بالتدخين أو نحو ذلك.
حادي عشر: حفظ اللسان: وذلك بتجنب فضول الكلام، وسيئه، والبعد عن الغيبة والنميمة، والسخرية بالناس، وبالحذر من كثر المزاح أو الإسفاف فيه، وبصيانة اللسان من السب والشتم.
ثاني عشر: غض البصر: لأن الحاج يعرض له ما يعرض من الفتن، فمن النساء من تخرج سافرة عن وجهها، ويديها وقدميها وربما أكثر من ذلك، فعلى الحاج أن يغض بصره، وأن يحتسب ذلك عند الله عز وجل، وبذلك يسلم قلبه من التشوش، ويسلم حجه من النقص، ويحفظ على نفسه دينه، ويبتعد عن الفتن.
ثالث عشر: لزوم النساء الستر والعفاف: فعليهن ذلك وعليهن الحذر من مخالطة الرجال وفتنتهم، وعليهن الحذر من التبرج والسفور، والسفر بلا محرم.
رابع عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله: كل ذلك حسب القدرة، والاستطاعة مع لزوم الرفق، واللين، والحكمة، والموعظة الحسنة، والرحمة بالمدعوين والتلطف بهم، والصبر على بعض مايصدر منهم.
خامس عشر: إعانة الحجاج: وذلك بقدر المستطاع، كأن يرشد ضالهم، ويعلم جاهلهم، ونحو ذلك من الإعانات المتعددة.
سادس عشر: الاستكثار من النفقة: ليواسي المحتاجين، ويرفد إخوانه إذا احتاجوا، ليبادر إلى إعانتهم إذا شعر بأنهم في حاجة ولو لم يطلبوا.
سابع عشر: استشعار عظمة الزمان والمكان: فذلك يبعث الحاج لأداء نسكه بخضوع له، وإجلاله له - عزوجل -: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ }، فعلى الحاج أن يغتنم وقته بما يقربه إلى الله - عزوجل - من ذكر، أو دعاء، أو قراءة للقرآن، وذلك في أي مكان من تلك البقاع المباركة، فذلك سبب لانشراح صدره، ومضاعفة أجره، وإمداده بالقوة والطاقة، وشهود تلك الأماكن له يوم القيامة.
ثامن عشر: استحضار انقضاء أيام الحج: فهي قليلة معدودة، وسرعان ما تنقضي، فإذا استحضر الحاج ذلك كان دافعاً إلى اغتنامها، والبعد عما يفسد حجه، أو ينقص أجره.
تاسع عشر: المحافظة على أداء الفرائض: وذلك بالحرص على أداء الصلوات المكتوبة مع الجماعة، وأن يحذر كل الحذر من تأخيرها عن وقتها.
عشرون: البعد عن إجهاد النفس فيما لايعني: فذلك سبب لأن يتوفر الإنسان على النشاط، ويتقوى على أداء المناسك بيسر وسهولة.
واحد وعشرون: ألا يكون هم الحاج أن يقضي نسكه: بل عليه أن يستشعر عظمة ما يقوم به، وأن يكون قلبه منطوياً على تعظيم أمر الله، وأن يحرص على أن يتلذذ بما يقوم به، فذلك من أعظم مايعينه على انشراح صدره، وإتيانه بالنسك على الوجه الأكمل.
ويحرص الحاج على كل ما يقربه إلى ربه، وعلى كل مايعينه على أداء نسكه، وليحذر كل الحذر من كل مايفسد عليه حجه، أو ينقص أجره من قول أو عمل.
حرمة المسلم
ويبين د. فهد بن سعد الجهني - أستاذ الدراسات العليا الشرعية بجامعة الطائف: الآداب التي ينبغي بل يجبُ على الحاج أن يستصحبها في نُسُكِهِ كله ؛كثيرةٌ ومهمة وأهمها وعمودها: الإخلاصُ لله رب العالمين في قوله وفعله في سره وجهره ثم اللهج بشكر الله وحمده أن مكنه ويسّرَ له آداء هذا الركن العظيم! في الوقت الذي حُرِمَ منه كثيرون لعجزِ أو فقرٍ أو بعدٍ أو صرفٍ عن طاعة الله !
وليستشعر الحاجُ مكانة هذا النسك المهيب؛ وأنه آذانُ إبراهيم الخليل بالناس بالحج بأمرٍ من ربه ليفدوا إلى الكريم الحليم رجالاً أو على كل ضامر ومن كل فجٍ عميق !
ومن الآداب: الرفق بإخوانه المسلمين، فإن حرمة المسلم عند الله أعظم من حرمة البيت الذي يفدُ إليه وتعنّى من أجله؛ كذلك: المحافظة على آداء الصلوات جماعة ما تيسَّر له ذلك، وكذلك أن يكون في رحلته كلها مستشعراً حرمة المكان وعِظم الزمان؛ فيتجنب ما أمر الله الحاج بتجنبه من الرفث والفسوق والجدال وكل ما يشغله عن آداء هذه العبادة العظيمة؛ وأن يُشغل لسانه بذكر الله تعالى فهو خير ما أشغل به نفسه وقضى فيه وقته.
مقاصدية الجمال في الشعائر
ويقول د. مسفر بن علي القحطاني - الأستاذ المشارك بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن بالظهران: (إن الله جميل يحب الجمال).. قاعدة نبوية ومقصد ديني كلي يدخل في كثير من فروع الشريعة، يدعو المسلم إلى تلمّس الجمال في الكون، وطلبه في الحياة، وإيجاده في النفس، وتأمّله في الخيال عندما تنعدم صوره في الوجود.. ولا أظن نفساً سوية إلاّ وهي تعشق الجمال، وتستروح مناظره، وتهفو إلى لطائفه سواء كان بالنظر إليه أو الاستماع لأعذب أصواته، أو الشعور بتناسق الحركات الوجودية ونعومتها، أو التلذّذ بشم أزكى الروائح وأطيبها، وغيرها من صور الجمال البهية التي أودعها الله في الكون البديع.. وعلى قدر التفاعل بين تلك الجماليات المتنوعة والأنفس السوية تظهر انعكاسات هذا التمازج الأخّاذ في الأفكار والسلوك، وعلى قدر قوة تأثير الجمال في النفس تكون الأفكار أكثر قدرة على التناسب مع الواقع والتناسق مع سنن الحياة.
فإذا كان من المقرر أن من صفات الله تعالى الجمال والكمال، وأنه سبحانه يحب أن يرى أثر نعمه على عباده؛ أصبح من اللازم شرعاً وعقلاً أن يتفق مقصد المخلوق مع مقصد الخالق في خلْقه وصنْعه على تحقيق الروعة والحسن في الأمور كلها، وحتى يستقيم لنا هذا المعنى فلابد من توضيحه وتأصيله بضرب الشواهد من شريعتنا الغراء، ولعل من أعظم الأمثلة في ذلك؛ عناية الشريعة بالنظام و التنظيم في شؤون المكلفين كلها, وأعظم مثال للاستشهاد به في هذا المقام؛ تلك الشعائر الرائعة في عبادة الحج سواء في مظهرها وأدائها، أو مخبرها وتهذيبها لنفس المسلم الحاج، فعبادات الحج القولية والفعلية والقلبية، تأسر القلوب والأعين في جمال أدائها وروعة الامتثال لها من خلال فسيفساء التنوع الإنساني الذي زاد هذه المناظر روعة وإجلالاً.
فعندما يأتي الحجاج من كل حدب وصوب يلهجون بنداء واحد وتلبية لله عزوجل تخرج تنهداتها من أعماق النفس فتسمعها الآذان بلكنات شتى وتمازج في الأصوات عجيب، لتسكب في الأعماق رموزاً جميلة وأخّاذة لا يمكن تكراره بهذا التناغم إلا في الحج.
ولا تنتهي صور الجمال عند هذا الحدّ, فلباس الحجاج الواحد وحركتهم الواحدة وهدير أصواتهم عندما تنقل بين الوديان والجبال؛ راكبين أو راجلين في مساواة لا مثيل لها في التاريخ؛ بل هي صورة من الجمال الذي لا يمكن مشاهدته إلا في الحج.
كما أن النظافة بأنواعها مطلب رئيس في الحج، والنظام والدقة في المواعيد والأحكام مظهر للحاج، يعكس مدى حرص الشريعة الغراء على لباس الجمال في كل شعائر التقرب والتعبد لله تعالى.
إن المسلم مأمور بالتفكر في سنن الحياة والحياء وطبائع الأشياء التي لا تخلو من روعة الخلق والتدبير، وكذلك هو مأمور بالنظر في جميل صنع الله في السماء والنجوم والأنهار والجبال والأزهار والدواب {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ؟! بل القرآن كله بجمال أسلوبه، وروعة ألفاظه، ويسر معانيه ما تطرب له القلوب والأسماع، وتنقاد له العقول والألباب؟! أليس في ذلك دلالة واضحة على مقاصدية الجمال حتى في الفكر والنظر والاعتبار؟!
إن كل هذه المعطيات الجمالية التي تكتنف المسلم في شعائره وعباداته، فضلاً عن كونها مغروسة في أعماق نفسه وفطرته لمؤثر قويّ في طباعه وأفكاره؛ فالجمال يزيد الطباع رقة وأدباً لا جفوة في التعامل أو شدة في الرأي، ويذكي في الأنفس رغبة البحث عن جماليات الصور في الأحوال والأشخاص والوقائع لا على تصيّد الأخطاء القبيحة، والنظر في الزلل الخفي، وحفظ السقطات القاتمة، والعاشق للجمال تأنف نفسه أن تعيش في الوهن والهوان أو أن تكون ضعيفة منقادة أو ذليلة مرتابة.
لقد كانت صور الجمال في الجزيرة العربية مهبط الرسالة قليلة الوجود في البيئة؛ ولكن الإسلام زاد من خيالها في النفس حتى أصبحت عقيدة راسخة يشعر المؤمن بها من خلال جمال الجنة وروعة نعيمها الذي لا يتصوره عقل، ولم تره عين، ولم يسمع عنه بشر، فأدّى هذا الشعور إلى حضور هذه الصور الجمالية في العقول والقلوب إلى درجة أن يصيح أحد الصحابة: (أنه يجد ريح الجنة من وراء أحد؟!).
إن الهدف من وراء بيان مقاصدية الجمال في الشريعة والحياة هو التأكيد على ضرورة العودة إلى تلك القيم الجمالية التي ستُشيع في أنفسنا ومن حولنا مشاعر الحب واللطف، وتقضي على ندوب الكره والعنف التي ضيّقت وقتّرت وجه الحياة وأزّمت العلاقة بين الأحياء، ولعلها أن تزيد من فرص الحياة الكريمة والسعيدة بكل ما فيها من فرح ومتعة، وكم يحزنني أن الباطل المعاصر يظهر بأجمل الحُلل الخادعة، والحق الواضح يظهر نافراً مشوّهاً بعيداً عن الحسن؛ حتى أصبحت مشاهد القتل والعنف والحروب وغلظة الخطاب وكآبة الحال هي ما يميز أخبار المسلمين، ويصنع صورتهم في العالم، مع أن حقيقة الصورة المعروضة للدين أبهى من واقعنا المعاصر؛ فالنبي الأسوة -صلى الله عليه وسلم- كان في غاية الجمال، وكلامه في غاية الروعة، ولا يرضى أن تظهر شعيرة إلاّ على أجمل صورة؛ فبلال رضي الله عنه لم يكن صاحب الرؤيا في الأذان، ولكنه استحق الصعود والبلاغ؛ لأنه أندى صوتاً وأجمل في الأداء، وكان دحية الكلبي مبعوث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بعض ملوك الأرض لجمال صورته وروعة بيانه.
فهل آن الأوان لجماليات الدين أن تظهر في بلاغنا، وتزيّن سلوكنا وتجمّل هيئاتنا؟